وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين.
فقوله: (كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً) أي: هو في نفسه ليس من الصالحين، وليس رجلاً صالحاً.
وقوله: (ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين) أي: يغتابهم ويذكر عيوبهم.
وقال أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم.
وقال الشاعر: لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس والأعراب هم البدو الرحل الذين لا يعيشون في المدن، ولا يسمعون القرآن، ولا يحضرون دروس العلم، والأصل فيهم الجهل والجفاء إلا ما استثني، كما ذكر الله تبارك وتعالى في سورة التوبة، لكن هذا الأعرابي مع ذلك نطق بالحكمة، ونطق بما تدل عليه أحدث الاتجاهات في علم النفس الحديث، حيث إنهم يفرحون بهذه الأشياء، ويظنون أنهم هم الذين أوجدوا هذه العلوم، لكن انظر هذا الأعرابي مع بساطته عبر بما يطلقون عليه الآن: (الحيل الدفاعية) التي يسلكها الإنسان ليدفع عن نفسه العوص والعيب، ومنها حيلة الإسقاط، أي: يسقط أخطاءه على الآخرين، فهو يشعر بعيب معين في نفسه، فكي يلفت النظر بعيداً عن أن ينتبه الناس إلى هذا العيب الذي هو في نفسه يرمي الناس بما فيه من العيوب، وكلما كثرت فيه هذه العيوب كلما كثر تتبع هذه العيوب في الناس، فهي حيلة من الحيل الدفاعية بالاصطلاح الحديث في علم النفس، فهذا الأعرابي سمع رجلاً يقع في أعراض الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها -أي: للعيوب- يطلبها بقدر ما فيه منها.
أي: فكثرة الاشتغال بعيوب الناس تدل على وجود نفس هذه العيوب في نفسه هو، فهي عبارة عن عملية دفاعية بكونه يسقط هذه العيوب على الآخرين.
يقول: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها.
وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب أي: صاحب العيوب.
وقال الشاعر: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل فالإنسان لو في جسمه جروح مكشوفة، وفيها الدم وفيها كذا وكذا، فتجد الذباب يحب أن يتتبع مواضع العلل والداء كي يقف عليها، فكذلك هناك أناس لهم هواية التفتيش في القمامة، فترى أحدهم عنده هذه الهواية، ويحب التفتيش في القمامة، فما يقع إلا على العلل، ولا يذكر محاسن الآخرين، لكن دائماً يفتش في القمامة، ويقلب هذه الأشياء، وهذا ما يعبر عنه الشاعر بقوله: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل وهذا التفتيش في القمامة ليس فقط على مستوى العلاقات الفردية، لكن يوجد أيضاً فيما يُسمى زوراً بالبحوث التاريخية، يزعمون أنهم يكتبون أو يبحثون بحوثاً علمية وتاريخية، ثم هم ما يقعون إلا على مواضع المؤاخذة في التاريخ الإسلامي، فمثلاً: ما يعرفون عن معاوية رضي الله تعالى عنه إلا كذا وكذا وكذا، وينسون أنه صحابي، وأنه خال المؤمنين، وأنه كاتب الوحي، وأنه المجاهد في سبيل الله، وأنه الحاكم بشريعة الله، كل هذا يُنسى، ويُركز فقط على المآخذ، سواء على معاوية رضي الله تعالى عنه مثلاً، أو على الدولة الأموية، أو على الدولة العباسية، وينسون أن واجب كل مسلم من أهل السنة أن يكون له ولاء لكل هذه الولايات الإسلامية أو الخلافات الإسلامية، سواء أكانت راشدة -بلا شك- أو أموية أو عباسية؛ لأنها في الجملة كانت خلافة إسلامية ترفع راية الشريعة، وتحكم بكتاب الله تبارك وتعالى، فينشغلون بذم تاريخ بعض السابقين وبعض الصور التاريخية السابقة بهدف التنفير من هذا التاريخ، وقطع اعتزاز الخلف بهذا السلف بالتركيز فقط على عيوبهم، ولو سلكوا المنهج المثيل لأمسكوا عما شجر بينهم، ولأمسكوا عن هذه العيوب، ولقالوا ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.