خلق الرحمة وصف الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن في قوله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، هذا الخلق من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وآله وسلم التي تجلت مع كل العالمين، ليس مع المؤمنين فقط، ولكن كان رحمة لجميع الأمم وجميع العالمين، الجن والإنس والدواب والطيور والحيوانات، فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة لهم أجمعين.
لقد آذوه واضطهدوه وهو يقول صلى الله عليه وسلم (اللهم! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) يتمثل قول نبي سابق قال لقومه كذا.
وهذا ملك الجبال جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما آذاه قومه فقال له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين.
فيجيب صلى الله عليه وسلم قائلاً: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً).
فما كان مقصوده صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يعبد الله فلا يشرك به شيء، ولا يبالي في سبيل ذلك بما أصابه، فإذا وحد معبوده حصل مقصوده، وإذا عبد محبوبه حصل مطلوبه، وإذا ذكر ربه رضي قلبه، وأما نفسه فما يبالي بما أصابه في سبيل ربه، على حد قول القائل: إن كان سركم ما قد بليت به فما لجرح إذا أرضاكم ألم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فجلس إلى الفقراء وذكرهم بالجنة، وبدا على وجوههم البشر، فحزنت لأني لم أكن منهم)؛ وذلك من شدة رحمته بالضعفاء صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ذات يوم رجلاً أسود فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا رسول الله.
قال: أفلا آذنتموني -أي أفلا أعلمتموني بموته حتى أشيعه-؟ فقالوا: إنه كذا وكذا.
فكأنهم حقروا من شأنه، فقال: دلوني على قبره، فأتى قبره فصلى عليه صلى الله عليه وسلم).
وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من وجد أمه من بكائه)، فنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يدخل في الصلاة ينوي أن يطيل فيها، فإذا سمع بكاء الصبي ترك إطالة الصلاة، وما دفعه إلى التجوز في الصلاة إلا الشفقة على أمه، وقد يتبادر إلى الذهن أنه الشفقة على الصبي نفسه وبكائه، لكنه صلى الله عليه وسلم يعلم مدى شدة هذا الأمر على أمه، فيخفف في الصلاة شفقة على أمه، فما أعظم خلقه صلى الله عليه وسلم! وما أبعد كثيراً من المسلمين اليوم عن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم! فحينما يصطحب بعض الناس معه صبية صغاراً إلى المسجد فبحكم صغر سنهم لا أقول: يبكون.
لكنهم يصيحون أو يتحركون أو يفعلون في المسجد أشياء هم فيها معذورون، فبمجرد تسليم الإمام نرى كثيراً من الكبار يصيحون صياحاً أشد من صياح هؤلاء الأطفال، وينتهكون حرمة المسجد، ويشنعون على أبيه، وربما طردوا الأولاد من المسجد، وفعلوا معهم وفعلوا، ولو أن الواحد منهم قُدِّر أن هذا الولد هو ولده ما تأذى منه.
لقد كان الحسن يركب على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ويطيل السجود لأجل ذلك، ويقول بعدما أطال السجود: (إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله) صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما أُسر أبو عزة الشاعر أول مرة استعطف النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلق سراحه بشرط أن لا يقف بعد يوم بدر ضده صلى الله عليه وسلم، وتدور الأيام، ويحضر أبو عزة المعركة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأسره مرة أخرى ويستعطفه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بقتله، وهذا الشيء هو الذي أخذ به القانون الدولي في القرن الأخير، بأن الأسير السابق إذا أسر في معركة مرة ثانية في حربه ضد تلك الدولة فإن من حقها أن تقتله.