الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها) وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: (إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل ينزعهن ويغلبنه يتقحمن فيها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها).
هذا الحديث من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة التي تجلي صفة الرحمة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الرحمة ملأت قلبه حتى كادت تهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم حزناً وحسرة على هذه الأمة، قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، ففاضت هذه الرحمة وفاضت حتى كادت تقتل صاحبها صلى الله عليه وسلم حزناً لما يرى من انصراف الخلق عن طريق الجنة إلى طريق النار.
يقول صلى الله عليه وسلم: (مثلي) وفي بعض الألفاظ (مثلي ومثلكم) أي: مثلي ومثل الناس (كمثل رجل استوقد) أي: أوقد ناراً فاتقدت هذه النار واشتعلت وسرى ضوءها (فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها).
والفراش جمع فراشة، وهي دواب مثل البعوض تطير وتتهافت في السراج وتنجذب ناحية الضوء، فإذا رأت السراج بالليل ظنت أنها في بيت مظلم وأن السراج فوة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فتظل تطلب هذا الضوء وترمي بنفسها إلى هذه الفوة، فإذا ذهبت بعيداً عنها ورأت الظلام ظنت أنها لم تصب تلك الفوة، فتعود إليها إلى أن تحترق بهذه النار التي تحسبها نوراً.
والجنادب، جمع دابة، وهي التي تقع في النار كالفراش والبعوض والجندب حيث ينجذبن إلى النار ويقعن في هذه النار، (وجعل الرجل يحجزهن) أي: يمنعهن عن النار مخافة عليهن (ويغلبنه) فرغماً عنه تصر هذه الدواب على أن تقع في النار وتتقحمها، قال: (فيغلبنه فيقتحمن فيها) أي: فيدخلن في النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فذلكم مثلي ومثلكم) أي: ما ذكر من حال الرجل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها صار الفراش والدواب يقتحمن فيها والرجل يمنعهن من ذلك وهن يغلبنه يقتحمن في النار.
ثم زاد هذا الأمر بياناً فقال صلى الله عليه وسلم: (أنا آخذ بحجزكم عن النار) والحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزار، ومن السراويل هي موضع التّكّة، (وأنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار) أي: أقبلوا إلي عن النار، أقبلوا إلي ولا تنجذبوا ناحية هذه النار، ففي متابعتي السلامة منها (فتغلبوني تقحمون فيها) أو: (تتقحمون فيها) على الروايتين، أي: تدخلون فيها هجوماً عليها من غير روية.
فشبه صلى الله عليه وسلم تساقط العصاة في نار الآخرة بجهلهم عاقبة الشهوات بتهافت الفراش في نار الدنيا بسبب جهلها وعدم تمييزها لما تقصد إليه، فهي تعتقد نفع النار وهي سبب هلاكها، فكذلك أهل الشهوات في شهواتهم الغالبة، يعتقدون أنها نافعة وهي مضرة، والعاقل منهم الذي تحقق له أنها مضرة، لكن كان أسيراً للشهوات، فإنه لا ينفعه علمه بالضرر الذي فيها عن أن يسلك طريق النار فيقتحم فيها اقتحام الفراشة في النار مع علمه بأن فيها هلاكه.
يقول بعض العلماء: إلى الله أشكو طوع نفسي للهوى وإسرافها في غيها وعيوبها إذا سقتها للصالحات تقاعست ودبت على كره إليها دبيبها وتهب نحو الموبقات نشيطة إذا ساوقتها الريح ساقت هبوبها وما هي إلا كالفراشة إنها ترى النار ناراً ثم تصلى لهيبها فهذا الحديث من أجلى ما يبين رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة، كيف أنه يحرص أشد الحرص على إنجاء الناس من النار، وإنما يهلك من هلك رغماً عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.