يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]: ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة.
وسنلاحظ في كلام مصطفى محمود أنه -للأسف الشديد- بسبب قصوره وعدم علمه كيف أنه ضرب آيات الله بعضها ببعض دون أن يتطرق إلى خبر العلماء الحكماء في الجمع بين الآيات، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج وبعض الصحابة يحتج بآيات في القدر، والبعض الآخر يرد بآيات أخرى مخالفة لها في الظاهر غضب غضباً شديداً، واحمر وجهه حتى كأنما فقيء في وجهه حبّ الرمان، وقال: (بهذا هلكت الأمم من قبلكم؛ أنهم ضربوا كتاب الله بعضه ببعض) إلى آخر الحديث.
فهذا المنهج الثقيل -أعني: ضرب الآيات بعضها ببعض- منهج يدل على عدم الفقه والعلم، ويدل على عدم إتقان علم الجمع بين الأدلة عند التعارض.
يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)): ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة، ولكنه بيّن في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار.
إذاً فهناك نوعان من الشفاعة المنفية: النوع الأول: الشفاعة للكفار.
والنوع الثاني: الشفاعة بغير إذن الله ورضاه، فهذه لا يمكن أن تحصل، وأما الشفاعة للمؤمنين بإذنه سبحانه فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقد قال عز وجل: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، إذاً: فالكفار ليسوا ممن رضي الله عنهم، لذلك فإنهم يحرمون من الشفاعة.
وقال تبارك وتعالى مقرراً لقول الكافرين: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]، وقال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وغير ذلك من الأدلة، فهذا في حق الكفار، والشفاعة بدون إذنه منفية أيضاً، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، فيأتي هذا الرجل بقصوره ويقول: نحن نقول في الصلاة عن الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وأنتم تجعلوا الرسول عليه الصلاة والسلام هو مالك يوم الدين؛ لأنه يشفع للناس!! وهذا شيء غريب جداً، فنحن نقول: إنّ الشفاعة المثبتة لا تكون إلا بإذن الله، ولا تكون إلا عمن يرضى عنه الله، فكيف تزعم بعد ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح مالكاً ليوم الدين!! فما هذا الجهل المطبق؟!! وهو لم يتراجع عن هذا، بل أصر وعاند وكابر، وقد أخطأ بعض الإخوة حين فهموا منه أنه تراجع، فإنه لم يتراجع كما سنبين، وادعاء شفعاء عند الله من كفار، أو بغير إذنه من أنواع الكفر به جل وعلا كما صرح به في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18].
يقول الشنقيطي: وهذا الذي قررنا من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعاً مطلقاً يستثنى منها شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فهذه الصور التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة لا تتناقض مع قوله تعالى: ((وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ))؛ لأن هذه الشفاعة ليست في إخراجهم من النار، وإنما في نقلهم من موضع إلى موضع منها.
إذاً: فالشفاعة الثابتة في الشرع هي التي يجتمع فيها شرطان: إذن الله للشافع، والرضى عن المشفوع له، ولا يرضى الله عن الكافر كما قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، فالكافر لم يتوفر فيه هذا الشرط، والشفاعة لا تكون إلا من بعد إذن الله عز وجل، سواء في ذلك شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة من دونه، وذلك الإذن يتعلق بالشافع والمشفوع فيه، فلا يَشفع إلا من أذن له في الشفاعة، ولا يُشفع إلا فيمن أذن الله أن يشفع فيه، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ))، وهذا في الكفار.