سبق أن ذكرنا أن العصمة من الضلال منوطة باتباع القرآن والسنة: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)، فالعصمة من الضلال لابد فيها من القرآن والسنة معاً، وليس هذا فحسب، بل لا بد أن يكون ذلك بفهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم، وقد ناقشت هذا بالتفصيل في محاضرة (السلفية لماذا؟)، وقلنا: إن أهل السنة والجماعة هم الميزان، ولن نستطيع أن نفصل ذلك الآن، لكن نذكركم ببعض العناوين، فقد ذكرنا أن الانتماء إلى أهل السنة والجماعة ليس مسألة اختياريه كما تختار في الفاكهة والألوان والطعام والشراب، بل هي مسألة ليس فيها اختيار، ففرض لازم على كل إنسان أن ينتمي إلى منهج أهل السنة والجماعة، فالسلفية منهج ملزم على كل مسلم، وهي تقوم على الكتاب والسنة بفهم الصحابة وتابعيهم بإحسان.
وقلنا: بفهم الصحابة والتابعين لنسدّ باب انحراف أهل البدع الذين انحرفوا في فهم كتاب الله، فالكتاب والسنة يستطيع كل أحد أن يفهمها فهماً، وأن يفسرهما تفسيراً، وأن يؤلهما تأويلاً يوافق هواه وبالعكس، فلا بد من سدّ الطريق على أهل الباطل بقولنا: الكتاب والسنة بفهم السلف؛ لأن السلف الصالح معهم حق كل فرقة، وهم برآء من ضلال كل فرقة، وقد زكاهم الله سبحانه وتعالى فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115]، وخير أمة أخرجت للناس هم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وقد زكى الله إيمان الصحابة وقطع بصحته، واشترط في نجاة من بعدهم من الفتن والاختلاف أن يكون إيمانه مثل إيمانهم، فقال الله عز وجل في القرآن الكريم: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ} [البقرة:137]، فكلمة (مثل) هي السلفية، {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137]، فالهداية محصورة في الإيمان بمثل ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ((بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ)) أيها الصحابة! ((فَقَدِ اهْتَدَوا))، ومفهوم الآية أن من انحرف عن مثل ما كان عليه الصحابة فقد ضل ضلالاً مبيناً.
ولذلك قلنا: إن معرفة ما كان عليه النبي عليه السلام إما أن تكون بالمعاينة والمعاصرة، وإما أن تكون بالإسناد، فالرواية تنقل إلينا بالأسانيد، لذلك فالإسناد هو شريان الحياة في منهج أهل السنة والجماعة، وقلنا: إن اتباع السلف هو المنهج الذي يعصم من الحيرة والتلون، فالذي يتمسك بمنهج أهل السلف فإنه في الغالب -إلا ما شاء الله- لا يرجع مرة ثانية، بل إنه يمشي إلى أن يصل -إن شاء الله- إلى النجاة في الآخرة، ولا يكون من الفرق النارية، وإنما يكون من الفرقة الناجية بإذن الله تبارك وتعالى، فهذا المنهج يتميز بالبصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وهو يعصم من الحيرة والتلون، ولذلك لا نكاد نجد واحداً فقه المنهج السلفي واتبعه على بصيرة ثم تراجع وانتكس عنه، وذلك مصداق لقول هرقل لـ أبي سفيان لما سأله: هل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، ثم قال له بعد ذلك: وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت ألّا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فهذه هي دعوة الفطرة والبصيرة والاتباع والدليل والإنصاف والعدل والتوحيد إلى آخر هذه المحاسن المعروفة، لذلك: من يمشي على هذا المنهج السلفي فإنه يمشي في اتجاه واحد، ولا يرجع عنه في الغالب إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، في حين أن من بدأ بغير المنهج السلفي فإنه يتلون، وقد رأينا ذلك بأعيننا في الفرق الضالة التي كانت موجودة إلى عهد قريب، فقد كانت تحصل فيهم انشطارات داخلية، فالفرقة تنقسم إلى فرق، والفرق تنقسم إلى فرق وهكذا إلى ما لا حصر له ولا عدد، وقد وجدنا في ذلك نماذج كثيرة جداً كما هو معروف من حال أبي حامد الغزالي، فإنا إذا درسنا مراحل حياته لوجدنا كيف يكون التلون سمة بارزة لمن انحرف عن منهج السلف، وحرم مما كان عليه السلف، فقد ظل الغزالي ينتقل من منهج الفلاسفة إلى منهج أهل الكلام، وإلى منهج الباطنية، وإلى منهج الصوفية إلى آخره، وللأسف الشديد فإنه لم يكتشف الحقيقة إلا في آخر حياته رحمه الله تعالى، فمات وصحيح البخاري على صدره، وكأنه يريد أن يقول: هاأنذا حتى هذه اللحظة الأخيرة أريد أن أكفر عن انشغالي عن منهج أهل السنة والجماعة.
وكذلك كان حال الرازي والجويني وكثير من علماء الكلام، فإنهم ندموا عند الموت على خوضهم في علم الكلام.