هناك طبيب يدعى تسيفن بانا في جامعة كولومبيا غير مسلم، يقول: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.
يعني: عندما يدخل الإنسان السجن مع المجرمين فإنه يرتقي إلى جامعة الإجرام؛ لأنه هناك يتعلم كل شيء، لكن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.
فمن أخطر مخاطر التلفاز أنه يشيع الفاحشة، وينفث روح الجريمة، ويقلب القيم رأساً على عقب، فاللصوصية بطولة تثير الإعجاب، والغدر سياسة، والخيانة فطانة، والعنف هو الوسيلة المثلى والأقل تكلفة لتحقيق المآرب، وعقوق الآباء تحرر، وبر الوالدين ظلم، وطاعة الزوج رق واستعباد، والنشوز حق، والعفة كبت، والدياثة فن راق وذوق رفيع، وهي أسرع وسيلة للإثراء، ولا ريب أن موالاة عرض الجرائم والإلحاح في ذلك يوماً بعد يوم هو من أخطر ما يدرب القلوب على التهوين من شأنها وقبول الانحراف والتعايش معه والتدرج والانخراط في سلك أهله، وصارت هذه الفضائح مألوفة عند الإنسان، فهو عندما يسمع عن جرائم الذي قتل أباه والذي قتل أمه، كل ذلك يجعله يتجرأ على هذه الجرائم.
وهذا الدكتور السعدي فرهود حكى في حوار له مع إحدى الجرائد يقول: أظنكم سمعتم أو قرأتم أن شخصاً يملك منزلاً اتفق مع مقاول على أن ينسف السلم، وفعلاً أرسل المقاول ابنه بفتيل من الديناميت ووضعه على السلم، واختار وقتاً مناسباً وهو وقت انشغال الناس بمشاهدة مباراة كرة القدم، وانفجر الفتيل، لكنه لم يهدم إلا حجرة واحدة، فمن أين عرف المقاول هذه الطريقة؟! عرفها من أحد الأفلام في السينما التي عرضت في التلفزيون.
وهكذا فإن كثيراً من الأفلام الأجنبية تعلم أحدث وسائل ارتكاب الجريمة.
انتهى كلام الدكتور فرهود.
وقد توصلت الدراسات التحليلية إلى أن التلفاز بما يعرضه من أفلام سينمائية تحتوي على مناظر إجرامية أو انحلالية قد يؤدي إلى انحراف كثير من الناس عن طريق ما تخلقه هذه الأفلام من خيالات يعيشها من يشاهدها، كما تبين من مجموعة ذكور منحرفين تناولتهم تلك الدراسة أن أحد الأفلام التي عرضها التلفاز قد أثار فيهم الرغبة في حمل السلاح، وعلمهم كيفية ارتكاب السرقات وتضليل الشرطة، وشجعهم على المخاطرة بارتكاب الجرائم.
ويحكي الدكتور عبد العزيز كامل ما يدلل به على أثر مشاهدة العنف والجريمة التي يعرضها التلفاز على الشباب، ويذكر مشهداً تكرر في أكثر من فيلم، حينما يهاجم أحد الشباب زميلاً له في مشرب أو مقهى، فيمسك بيده زجاجة فارغة ويضرب قاعدتها فتنكسر تاركة وراءها أطرافاً مسننة كل منها كأنها خنجر، ويهاجم بها خصمه في رقبته أو وجهه.
ويحكي مشهداً واقعياً آخر رآه، يقول: كان هناك جمع من الطلبة يلعبون بالكرة في فناء قريب أراه من نافذة مسكني، واختلفوا، فإذا بشاب منهم هو أقواهم قد تقمصته روح التمثيل، فرفع كتفيه وأحنى رأسه قليلاً إلى الأمام وباعد مرفقيه، وأمسك زجاجة وكسرها على سور قريب، ولكن الكسر لم يكن فنياً، فإذا هي تنكسر في يده، واندفع الدم منها، واندفع الشاب يصرخ بشدة طالباً النجدة، هو يريد أن يقلد المشهد الذي رآه، وسارع زملاؤه إلى رفع يده وحمله إلى أقرب مستوصف طبي، وتحول مشهد التمثيل إلى حقيقة دامية.
حتى المرأة لم تسلم من وسوسة أُستاذ الإجرام (التلفاز) الذي أفسد فطرتها وشوه هويتها، فرأينا بعضهن ممن كانت بالأمس جنساً لطيفاً فصارت اليوم بعد أن تخرجت من مدرسة الجريمة وحشاً عنيفاً وخطراً مخيفاً.
رأت فتاة في الخامسة عشرة من عمرها في برنامج تلفزيوني قاتلاً يقص فرامل السيارة فقلدته، وحاولت قص فرامل سيارة أبويها لتقتلهما، واكتشف الأبوان الأمر قدراً؛ لأن الفتاة أخطأت فقطعت سلكاً آخر أضاء إشارة إنذار حمراء، ولم يعرفا من الذي حاول قتلهما، فجربت الفتاة خطة أخرى، إذ ألقت صفيحة من البنزين على السيارة في (الكراج) فانفجرت، وانتبه الأبوان في آخر لحظة فأسرعا يفتشان (المرقاب) أو (الكراج) في البيت خوفاً على ابنتهما، وكادا يختنقان لكثافة الدخان، واكتشفا أن الفاعل ابنتهما، وعندما سئلت الفتاة عن السبب قالت: أبواي يضغطان عليّ كثيراً للمذاكرة، وأخي أخفق في الدراسة، وهما يريدان مني تعويض إخفاقه، فنظرت إلى التلفزيون فتعلمت منه الجريمة.
وعقب عرض مسرحية تسمى (ريا وسكينة) تكررت حوادث تخدير الضحايا وسرقة ما معهم من مصوغات ذهبية، ومن ذلك ما وقع لامرأة ضريرة من دمياط استدرجتها امرأتان إلى بورسعيد، فوضعتا كمية من المخدر في كوب ليمون تشربه، ثم استولتا على ست (غوايش) ذهبية قيمتها ألف جنيه، وبعد غيبوبة ثلاثة أيام في المستشفى العام ببورسعيد أدلت المجني عليها ببعض المعلومات، حيث تمكن رجال الأمن من القبض على المرأتين، وتبين أنهما تحضران إلى بورسعيد لصيد الضحايا، وقد اعترفت المرأتان بقيامهما بسرقات سابقة مماثلة، وقد تعلمت المرأتان هذا الأسلوب بعد مشاهدتهما مسرحية (ريا وسكينة).
أما تأثيره على النشء فمعروف، وأتذكر أثناء الحملة على الحجاب والنقاب أنه كانت بعض الجرائد تأتي بصور طفلات صغيرات محجبات، ثم تتكلم عن اغتيال براءة الطفولة، أي أن البنت الصغيرة حين تتحجب فهذا اغتيال لبراءة الطفولة، فلنتأمل من الذي يغتال براءة الطفولة ويسلب فطرتها؟! إننا نعلم تأثير هذا الجهاز على هذه البراءة واغتيالها، وانتزاعه من الأبوين زمام التربية، فأخذت القيم التي تبثها الأسرة تذوى وتضمحل وتضمر لتحل محلها قيم تلفزيونية مشتقة من الأفلام والمسرحيات والتمثيليات، فشاع التحرر من القيود الأخلاقية، وظهر التمرد على الكبار، وانتشر ازدراء المعلمين واحتقار المدرسين والسخرية منهم، وصارت الاستقامة والطهارة أمراً يثير الضحك والاستهزاء والاستخفاف، وتشبع الأطفال بالروح الإجرامية والميول العدوانية.
وهنا نستدل بشاهد من أهلها، فهذا قاض فرنسي يعمل في ميدان الأحداث يقول: لا يخالجني أي تردد في أن لبعض الأفلام -خاصة الأفلام البوليسية المثيرة- معظم الأثر الضار على غالبية حالات الأحداث المنحرفين، وأننا لهذا لسنا بحاجة إلى البحث عن أسباب عميقة وراء السلوك الإجرامي عند هؤلاء الأطفال أو المراهقين.
يعني أنَّ السبب معروف.
وفي تجربة عملية عرض فيلم عنيف على مجموعة من الأطفال، ثم قدمت لهم دمى تشبه تلك التي عرضت في الفيلم، فعاملوها كما عاملها الممثلون فمزقوها إرباً إرباً.
ومعروف أن الاختبارات النفسية أحياناً تؤدى عن طريق اللعب أو الدمى.
وفي مرة أخرى قدمت هذه الدمى لأطفال لم يشاهدوا الفيلم فلم يعاملوها بعنف.
وهذا الأستاذ مروان كجك له كتاب رائع اسمه (الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفاز) استفدت كثيراً منه في هذا الموضوع، يقول: ما أكثر ما نرى ونسمع بين الحين والآخر أو نقرأ عن أطفال دفعتهم موحيات البرامج التلفزيونية إلى سلوك شائن مخيف، أو حملتهم على ارتكاب جريمة ظنوها ألعوبة من تلك الألعاب التي تظهر على الشاشة، وهي ليست في حقيقتها سوى دروس وتوجيهات تبذر الشر أو توقظه في نفوس هؤلاء الأطفال البرآء من قصد الجريمة، غير أن هذا لا يمنع أن يصبح ذلك أسلوباً وطريقاً لديهم يشبون عليه، بل قد يشيبون وهم يحملون قيمه بين جوانحهم وتؤكده فعالهم.
ويذكر شارلز آر رايس أن أجهزة معينة تشجع المسلك الشيطاني للأطفال الذين يقلدون أفعال الشخصيات الروائية، ويذكر عادة لتعزيز هذا الاتهام حادث الطفل الذي شنق نفسه وسط كتبه الفكاهية، بنفس الطريقة التي وردت في الرواية، مقلداً سلوك الشخصية.
كذلك تذكر حادثة أخرى، وهي أن طفلاً أصيب أو قتل وهو يحاول أن يطير في الفضاء كما يفعل سوبر مان في الأفلام الكرتونية (الكتاب الفكاهي).
إذاً: هذا يذكرنا بما حدث منذ سنوات حينما قدم التلفاز شخصية بطل خارق غير طبيعي، فقام أحد الأطفال فطار من شرفة منزله في مصر محاولاً تقليد هذا البطل العجيب فأودى بحياته.
ويذكر الباحثون المتخصصون أمثلة أخرجها الواقع لا التخمين لتأييد هذه الحقيقة، وهؤلاء الباحثون ينقلون كثيراً جداً عن كتاب (أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون) مترجم للعربية لمؤلف يدعى جوري مندر كان له وظيفة عالمية مرموقة في أمريكا، ويحذر أشد التحذير من التلفاز.
من هذه الوقائع أنه كثر في حي معين في إحدى المدن حوادث إصابة الأطفال بجروح وكسور في مؤخرة الرأس، وحولت حالات متتابعة إلى المستشفى القريب، واسترعى هذا نظر الجهاز الطبي فيها، فأجرى بحثاً عاجلاً لمعرفة السبب، فظهر أن فيلماً معيناً شاهده الأطفال وتأثروا به، وفيه مشهد شاب قوي الجسم تعود أن ينتصر على زملائه بأن يطرح أحدهم أرضاً ثم يضرب مؤخرة الرأس في حافة رصيف فقام هؤلاء الأطفال يقلدون هذا المشهد.
وفي واشنطن قام أحد الصغار بسحب وقود سيارة جارهم وصبه عليه وهو نائم، ثم أشعل الثقاب ورماه على الجار الذي أخذ يركض والنار تلتهمه، وعمر هذا المجرم الصغير ست سنوات.
وفي (بوسطن) رسب طفل عمره تسع سنوات في معظم مواد الدراسة، فاقترح على والده أن يرسل صندوقاً من الحلوى المسمومة إلى المدرسة، وعندما استوضحه والده عن ذلك قال: إنه أخذ الفكرة من برنامج تلفزيوني.
وفي فرنسا أطلق طفل عمره خمس سنوات رصاصة على جار له عمره سبع سنوات، وأصابه إصابة خطيرة بعد أن رفض الأخير أن يعطيه قطعة من اللبان، وذكر في أقواله للشرطة أنه تعلم كيف يحشو بندقية والده عن طريق مشاهدة الأفلام في التلفزيون.
والحقيقة أن الأمثلة كثيرة جداً، سواء في بلادنا أو في غيرها، وليس هدفنا أن نفصل، لكن كلها تحوم حول هذا.
فمجموعة من الأطفال في مدرسة يرون جريمة ترتكب بطريقة معينة فيعتبرون ذلك نموذجاً مثالياً ويطبقونه في المدرسة.
وهنا قصة، وهي أن مدرسة أبي بكر الإعدادية بحلوان تعرضت خلال الليل لتسلل من عدة أشخاص، وقاموا بأعمال تخريبية، إذ حطموا الدواليب والخزائن التي تضم أوراق ومستندات تلاميذ المدرسة، وكذلك أتلفوا في الأوراق والكتب والملفات والشهادات، وتركوا ورقة صغيرة كتبوا عليها عبارة صبيانية تقول: البرادع