ما حكم البيعتين في بيعة؟ لنفرض أن رجلاً بالفعل باع بيعتين في بيعة، وحصلت الصورة المنهي عنها، قال له: أبيع لك ثوبي بكذا وبأجل بأكثر منه بكذا، فقال: قبلت، فما حكم هذا البيع؟ ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى أن بيع بيعتين في بيعة باطل أو فاسد، ولم يشذ عن القول ببطلانه إلا نفر من الفقهاء كـ طاوس والحسن وحماد بن أبي سليمان.
وجاء في (الشرح الكبير): كما فسره مالك والثوري وإسحاق، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين، ولأن الثمن مجهول، فليس يصح كالبيع بالرقم مجهول.
أي: قوله: بعتك أحد هذين تشبه أن يقول له: بعتك بأحد الثمنين، ففيه جهالة، فإذا قال لك مثلاً: بعتك أحد هذين: مثلاً جهاز الكاست ومنبّه، وأنت تقول: قبلت، فهذا لا يجوز؛ لأن فيه جهالة، فأنت لا تعرف ماذا اشتريت، فالسلعة مجهولة، وذلك غرر، ومثلها أن أقول لك: بعتك بأحد هذين السعرين إما آجل بكذا أو عاجل بكذا، ومثل أن يقول لك قائل: أبيع لك هذه السلعة بمبلغ ما، فتقول له: قبلت، فهذا لا يصح؛ لجهالة الثمن، فكذلك ما سبق.
إنّ ما تكلمنا عليه آنفاً هو حكم البيعتين في بيعة من حيث الحل والحرمة، والصحة والبطلان، وهنا سؤال وهو: إذا كان هذا البيع حراماً باطلاً فماذا يجب؟
و صلى الله عليه وسلم أنه يجب فسخه، فلا يترتب عليه أثره، وأما لو هلكت السلعة أو استُهلكت، كأن تكون هذه السلعة طعاماً أو نحوه مما يؤكل، أو استُعمل واستهلك فما الحكم الشرعي في هذه الحالة؟ لقد أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك في حديث نبوي شريف أخرجه أبو داود في سننه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) وهذا الحديث حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، حديث رقم (2326).
فمن العلماء من أخذ بظاهر هذا الحديث ورتب على هذه الصورة من البيع أثراً، فقد روي عن الأوزاعي أنه سئل عن معنى بيعتين في بيعة وهو أن يقول: نقداً بكذا ونسيئة بكذا، فقال الأوزاعي: لا بأس بذلك، ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد البيعين، أي: لا يفارقه حتى يجزم بأي البيعتين أمضى، فإن قبض السلعة على ذينك الشرطين فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين.
أي: يكون بأقل الثمنين وهو بيع النقد، إلى أبعد الأجلين وهو بيع الأجل.
وبه قال طاوس، فقد سئل: إذا قال: بكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا فوقع البيع على هذا، قال: هو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، يعني: أن من وقع في هذه المخالفة الشرعية وحصل منه هذا البيع دون أن يجزم أو يحدد أي البيعتين أمضى فالحل في ذلك أن يكون البيع بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، وهذا مأخوذ من الحديث: (من باع بيعتين في بيعة) أي: قد حصل هذا البيع فما الحل؟ (له أوكسهما أو الربا)، أي: أقل ما يمكن أن تكون عليه في هذه الحالة وذلك بأن يكون بأبعد أجل، وبأقل ثمن، فهذا معنى: (فله أوكسهما)، وإن لم يفعل ذلك فإنه يقع في الربا.
وقد طعن بعض العلماء في صحة هذا الحديث، وقال بعضهم: على فرض صحته فعنه أجوبة: أولاً: يجاب عما قاله الأوزاعي بما قاله الخطابي: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث، أو صحح البيع بأوكس الثمنين إلا شيء يحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد؛ وذلك لما تضمنه هذا العقد من الغرر والجهل.
فهنا تعارض بين الحديث المتقدم وبين حديث: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، فظاهر هذا الحديث أن البيع يمضي، لكن بأوكسهما، أي: بأقل الثمنين.
وقال بعض العلماء: يحمل على معنى آخر مثل رجل باع شيئاً إلى أجل، وقال للمشتري: سدد لي مبلغ هذه السلعة خلال شهر مثلاً، فيأتي بعد شهر وعليه مائة جنيه مثلاً، فيقول المشتري بعد الشهر: ليس عندي ما أستطيع أن أسددك الآن، فيقول له البائع: أمد لك شهراً آخر ويكون عندك مائة وعشرون؟ قالوا: فهذا هو المقصود بقوله: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، قالوا: فإما أن يؤجَّل له المبلغ الأقل وهو مائة جنيه، أو يطلب منه هذه الزيادة فيكون قد وقع في الربا.
وهناك تفسير آخر لهذا الحديث، وهو: أن يسلف رجل رجلاً آخر ديناراً في قفيز بر، والقفيز هو نوع من المكاييل، فأسلفه ذلك إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له: بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثاني قبل فسخ البيع الأول، فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما أي: أقلهما من الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ البيع الأول كان منهياً عنه؛ لأنه بيع الدين بالدين أو بيع الكالئ بالكالئ منهي عنه لما فيه من الربا، فهذه صورة أخرى في معنى بيعتين في بيعة.
وقال بعض العلماء: إن الحديث من باب بيع الدين بالدين، وهذا قاله ابن الأثير في شرح هذا الحديث، قال: أن يقترض الرجل من الرجل مالاً فيعطيه سلعة إلى أجل، فإذا حل الأجل وطالب بالوفاء قال: بعني تلك السلعة إلى أجل آخر وأزيدك، ولا يجري بينهما تقابض، فكأنه أسلفه ديناراً في صاع بر مثلاً إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له: بعني الصاع بصاعين إلى شهرين، فهذا بيع ثانٍ، وهو بيعتان في بيعة، فهنا يرد إلى أقلهما وهو الصاع، أي: كأنه باعه دين بدين، وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه.
وهناك جواب آخر أجاب به بعض العلماء عن هذا الحديث: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) فقال بعض العلماء: ظاهر هذا الحديث مخالف للمذاهب كلها، إلا أن يقال في معناه: إن من باع شيئاً على أنه بخمسة إن كان ناجزاً وبعشرة إن كان نسيئة، ثم افترقا من غير أن يتعين أحدهما، فهذا البيع فاسد؛ لكونهما افترقا قبل تعيين الثمن، ولأنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعتين في بيعة وكان الحكم فيه الفسخ، إلا إذا استهلك المشتري المبيع أو أكله فلا يجب فيه إلا المثل أو القيمة إذا تعذر المثل، وهو أوثق عادة من الثمن المتعين بينهما في البيعتين معاً حاسبين المثل أو القيمة، المثل أو القيمة لا بد أن يكونا أقل من السعر الذي كان متفقاً عليه في البيعة الثانية؛ لأنه لو أخذ الثمن كان إبقاءً لبيع منهي عنه، فإذا أخذ الثمن ولم يفسخ فقد أربى؛ لكونه عقد عقداً فاسداً، والعقود الفاسدة كلها داخلة في حكم الربا.
وخلاصة الأمر في حكم بيعتين في بيعة: أنها من البيوع المنهي عنها ونقصد بيعتين في بيعة فالمقصود بها الصورة التي ذكرناها آنفاً، وهي غير بيع التقسيط، وهي من البيوع المحكوم ببطلانها، وتستحق الفسخ إذا وقعت بالصورة التي لا يُعلم فيها الثمن، وهذا رأي عامة الفقهاء.
وأما من حيث حكمها: فإذا حدث قبض بموجبها فجمهور الفقهاء يرون أن البيع الباطل لا ينتج أثراً، وأنه لا يصح الأخذ بظاهر حديث أبي داود؛ لأن العمل بظاهره يفيد أن البيع صحيح، والبيع الصحيح هو الذي ينتج آثاراً، ويرتب حقوقاً، إضافة إلى المطاعن التي ذكرناها في صحته أولاً من جهة، أو في صلاحيته للاحتجاج به على المقصود من جهة أخرى، فقد التمسوا له التأويلات على فرض صحته؛ انسجاماً مع الحقيقة الشرعية التي تأبى أن يترتب على العقد الباطل آثاراً، وتمكين للبائع من الوصول إلى حقه الذي ذهب بتعذر استرداد السلعة التي باعها بموجب عقد البيعتين في بيعة المنهي عنه شرعاً حتى يرد إلى البائع حقه، أي: إذا قلنا لهذا البائع: هذا البيع باطل ولابد أن يفسخ، فإنه سيقول: أرجعوا لي سلعتي التي أخذتموها، ويكون المشتري قد استهلكها، أو أتلفها، أو احترقت عنده، أو غير ذلك فهل يضيع حق البائع؟ لا، بل نُعمِل هذا الحديث كمخرج، (من باع بيعتين في بيعة) أي: واستهلكت السلعة، أو تلفت في يدي المشتري الذي قصّر في حفظها، فما الحل؟ (فله أوكسهما) أي: برد السلعة لصاحبها، أو قيمتها عند تلفها.