وهناك أسباب لهذا المرض كما أن هناك علاجاً له، فما من شك في أن أعظم أسباب طول الأمد وضعف الدين وقسوة القلوب هو (حب الدنيا)، كما جاء في بعض الآثار أن حب الدنيا سبب كل خطئية، تأمل في أي ذنب يمكن أن الإنسان يقع فيه تجد أصله وأسه هو (حب الدنيا) كما قال عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:20 - 21]، وقال عز وجل: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، فمن أحب شيئاً شغل به وقدمه على غيره، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) فالناس إذا أصبح الصباح وردت إلى أبدانهم الأرواح ينقسمون إلى قسمين: هناك إنسان يبيت على عد الأموال وحسابها، وهناك إنسان يبيت على الخصومات التي بينه وبين الآخرين، وهناك إنسان يبيت على الشهوات والمعاصي ويصحو أيضاً على طلب الدنيا، والإنسان إذا أراد أن يعرف ما هو أحب شيء إليه فلينظر ما هو الشيء الذي يقفز إلى ذهنه عندما ينام، أحب شيء إليك هو الشيء الذي عندما تأوي إلى فراشك تجده قد طغى على تفكيرك حتى تنام وأنت مشغول به.
كذلك الشيء الذي هو أحب الأشياء إليك، والشخص الذي هو أحب الأشخاص إليك هو من يخطر في ذهنك بمجرد أن تنتبه، كما يقول الشاعر في حق من يحبه: وآخر شيء أنت في كل هجعةٍ وأول شيء أنت عند هبوبي فكذلك من كان مشغولاً بالآخرة وكان محباً لله عز وجل أو رسوله حباً صادقاً أكثر من حبه لأهله وماله وولده وكل شيء في الدنيا قفز إلى قلبه دائماً حُب الله وحُب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحب ما يحبه الله ويرضاه، إذا أصبح يقفز إلى قلبه هم الآخرة فيصحو على ذكر الله، وينام على ذكر الله، ويشغل قلبه دائماًً: ما الذي يرضي الله؟ فإذا نظر حكّم شرع الله: هل النظر هذا حلال أم حرام؟ وإذا لبس حكّم شرع الله، وإذا أكل وإذا شرب وإذا عمل، في كل حركاته وسكناته يبحث عما يرضي الله، فهذا هو الشخص الذي يكون من أصحاب الآخرة، كل شيء في الدنيا يذكره بالآخرة، وهذا هو العاقل، فإن الله تبارك وتعالى ما جعل كل ما في الدنيا إلا لكي ينبهنا على الآخرة، الدنيا لذاتها لا تشتهى ولا تطلب، فإن نعيمها عذاب، ولا بد أن يكون نعيم الدنيا مخلوطاً بالآفات والمكدرات، كما يقول الله عز وجل في شأن أصحاب الجنة: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] (وأتوا به متشابها) نعيم الدنيا إنما خلق لكي يذكرك بالآخرة، وما في الجنة من الدنيا إلا الأسماء، فعنب الجنة ليس كعنب الدنيا، وثمر الجنة ليس كثمر الدنيا، إنما هو الاتفاق في الأسماء للتقريب فقط، أما الإنسان إذا حرم تماماً في الدنيا من النعيم فلن يستطيع أن يتخيل نعيم الآخرة، فمثلاً يحس بعينيه متعة النظر إلى الجمال الذي بثه الله تبارك وتعالى في هذا الخلق وفي الأشجار والحدائق والثمار ونحو ذلك، فهذا الشخص الذي فقد نعمة البصر لن يستطيع أن يتذوق نعمة النظر، وإذا كان الإنسان ليس له لسان -جدلاً- لن يحس بطعم ما يأكله، فأعطانا الله هذا النعيم في الدنيا لا لذاته، ولكن لينبهنا على نعيم الآخرة، ولكن خلط كل نعيم في الدنيا بالمكدرات والشوائب، فلا يوجد نعيم إلا ولا بد أن يكون مكدراً من عند أقل الأشياء إلى أكثرها.
فمثلاً: إذا كان يحب أنواعاً معينة من الفواكه كالبطيخ والبرتقال فإنه يجد ما يكدره عليه، فالقشرة يجب أن تزيلها أولاً، ولا بد في البذر أن تتضايق فتجد بعض التعب في تخليصه، وربما إذا أسرفت فيه يترتب عليه أضرار صحية، وهكذا حتى النكاح، فتجد المكدرات والعناء الشديد، وأما في الآخرة فإنه لا يوجد شيء من هذا، لكن وجدت هذه الأمور في الدنيا، وقصّر الله عز وجل وقتها وخلطها بالآفات تنبيهاً على أنها ليست مقصودة بذاتها، إنما المقصود أن نتنبه إلى ما يكون في الآخرة من النعيم الذي لا يضاهى ولا يقارن بما في الدنيا، هذا في جانب النعيم.
أيضاً في جانب العذاب، وقد نص القرآن على ذلك كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:71 - 74] فبين الله عز وجل من خلق النار أمرين: الأمر الأول -وقدمه لأنه أهم-: (نحن جعلناها) يعني: خلقناها (تذكرة ومتاعاً للمقوين) والمتاع معروف، تستدفئون بها وتطبخون بها الطعام، وتستضيئون بها، أما الهدف الأول من خلق النار في الدنيا فهو أن تكون تذكرة، إذا رأيتموها ذكرتم نار الآخرة فتعوذتم بالله منها، وحرصتم على أن لا تقعوا فيها، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً.
فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)، وألوان العذاب متنوعة ليست كما يتخيل الناس أن العذاب فقط بالحرارة المرتفعة التي هي سبعون ضعفاً من نار الدنيا، فهناك عذاب بالبرد الشديد الذي لا يقارن ببرد الدنيا وهو الزمهرير، وهذا أيضاً من أنواع ما يعذب به، يعذبون بالبرد كما يحرقون بالنار، والشاهد في قوله عز وجل: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] النار خلقت كي نتذكر بها نار الآخرة، ونتعوذ بالله إذا رأيناها، ونتخيل ما يصيبنا إذا وقعنا فيها، والزيارة إلى عنبر الحرائق في أي مستشفى يفسر للشخص معنى (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين)، فهذا أول إنذار من حب الدنيا وانشغالنا بها، وانصراف قلوبنا عما خُلقت له من محبة الله ورجاء الله والخوف من الله، صارت الدنيا تغلب وتطغى على قلوبنا حتى صرنا من أصحاب هم الدنيا، وصاحب هم الدنيا يعاقب بتشتيت همه فيعامل بنقيض قصده؛ لأن الله لما فتح عليه باب الخير والعلم الشرعي وباب العمل بطاعة الله فآثر الهوى على ما يرضي الله عوقب بعكس مراده، فأنت تريد الراحة في الدنيا، وتريد أن تجد لنفسك الراحة بدلاً من أن يقولوا: متطرف وتصبح الحكاية نكداً في نكدٍ، تتهاون قليلاً وتترخص وتبحث عن زلة عالم هنا ورخصة هناك، وتفتش في الكتب لعلك تجد شيئاً يثبت ما تفعله، نتعامل مع البنوك، نترخص في الكلام مع النساء، أو أي شيء من هذه الأشياء التي يستدرجنا الشيطان بها رويداً رويداً حتى يخلعنا من الدين، فإذا حصل مثل هذا وهو يريد الراحة فيعاقب بالتعب والنكد، لا في الدين فقط، لكن في الدنيا يعامل بنقيض قصده، والجزاء من جنس العمل، لما هان الله عليك هنت عليه وتركك ونفسك، ورفع عنايته عنك، وأرسلك للشيطان، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وأصلح لي شأني كله) الله عز وجل وهو مدرك الحال، وهذا يقين عند كل إنسان راسخ في قلبه، فالله لو تخلى عنك طرفة عين ما أفلحت أبداً، فالشاهد في هذا كله أن من أراد الدنيا وأصبحت الدنيا هي همه وشغله الشاغل وقدمها على الدين انحصر التعارض، فهذا يعاقب كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من أصبح والدنيا همه شتت الله عليه شمله) وما أدراك ما تشتيت الشمل! لا تقضى له حاجة، لا يستريح، فهو في نكد وهم وذل دائم في الليل والنهار.
(وجعل فقره بين عينيه) هو يريد الدنيا، وقدمها على الدين حتى يغنى ويجمع المال، لكن عومل بنقيض قصده، فلو جمع الملايين فهو فقير؛ لأن الغنى غنى القلب، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس الغنى بكثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) فإذا احتجت إلى شيء فأنت فقير إليه.
وينبغي أيضاً أن يكون الإنسان على يقين من هذا المعنى، أن الغنى ليس بكثرة العرض، والراحة لا تكون بالمال، إنما الراحة بطاعة الله تبارك وتعالى، والسعادة في ذلك، فرب رجل غني تقي -أعني غني النفس- قانع بما يعطيه الله يبارك الله له في هذا القليل، وإذا أوى إلى فراشه يبيت هادئ البال حتى لو نام على صخرة، ما ينام على ريش النعام، ولا على الفرش الوثيرة، ولا القصور الفخمة، لكنه ينام ولو على قش ولو على صخرة يتوسدها هادئ البال مرتاحاً، بينما تجد ملوك ورؤساء الدنيا إذا نام أحدهم يهُم بالليل ويهُم بالنهار، وربما يكون اجتلاب النوم عنده شيء عسير جداً، حتى لا يستطيع أن ينام، وربما يتعاطى المنومات حتى ينعم بلحظات الراحة، ورب رجل معه المال الكثير سلطه على هلكته في الباطل والمعاصي، فهو ما بين شراء الفيديو والتلفاز والأفلام والمسرحيات وأكل الحرام وشرب الخمر والمخدرات والربا، ويسلط الله عليه الأمراض، فمعه مال كثير لكن ليس فيه بركة، وأما الرجل الفقير التقي الصالح الغني فبالعكس من ذلك، فأولاده فيهم بركة يحفظون القرآن، ويطيعون الله.
فالشاهد أن من آثر الدنيا على الآخرة عوقب بنقيض قصده، وحرم من الدنيا، وأيضاً حرم من الآخرة، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:45]، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
وأما من جعل همه الآخرة فإنه يجعل الله