من أعظم وظائف الدولة الإسلامية وظيفة حراسة الدين, ثم سياسة الدنيا بالدين, وحراسة الدين تكون بأساليب كثيرة جداً, والتيار الوحيد الذي يستحق بكل جدارة أن يؤتمن على حراسة الدين وحراسة الشريعة هو التيار السلفي, ولا أقول ذلك تعصباً، ولكن إقراراً بالوضع القائم، وليس ذلك بطلبة العلم من أمثالنا، ولكن بعلمائنا الجبال الكبار الذين ما زال تراثهم يهدينا ويرشدنا وينفعنا, من علمائنا الأحياء أو الأموات رحمهم الله تعالى, فالتيار السلفي هو الوحيد المؤهل لأن يقوم بوظيفة حراسة الدين، وصيانة الشريعة من التحريف, وتنقيتها من البدع والشركيات، وحماية وبعث التراث الإسلامي, والدفاع عن العقيدة السلفية, وتصحيح عقائد الناس, واتباع الدليل في القضايا الفقهية، ونبذ التقليد والتعصب المذهبي, ونشر العلم الشرعي, وإقامة الحجة على خلق الله, وصيانة المفاهيم الإسلامية من أي تحريف تحت ضغط العولمة أو تحت ضغط الأمر الواقع، ولا يوجد أي تيار من التيارات الإسلامية على مستوى العالم مؤهل لأن يقوم بهذه المهمة سوى التيار السلفي، فالوظيفة الأساسية للدعوة السلفية هي حراسة الدين, وصيانة المفاهيم من أن تتزلزل في عصر زلزلة الثوابت, نحن الآن في فتن يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً, زمن تضطرب فيه المفاهيم, والأمور التي كانت غير قابلة للنقاش أصبحت قابلة للنقاش بسبب كثرة الإلحاح عليها وتكرارها من الفضائيات من جهة، ومن التبشير النصراني من جهة، ومن الشيعة من جهة، ومن الصوفية من جهة، ومن العلمانيين من جهة، ومن أعداء الإسلام في الغرب من جهة، فالسهام تتكالب علينا من كل جانب، فأصبحت مهمة صيانة المفاهيم من التغيير من أعظم المهمات؛ ليبقى الإسلام محفوظاً, وهو محفوظ شئنا أم أبينا؛ لأن الله تكفل بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، لكن حفظه له أسباب، ومنها الاجتهاد في حراسة الدين ومفاهيمه من أي تغير.
ولا يليق بالدعوة السلفية في الأوضاع الحالية أن تلبس ثوب الدخول في الاتجاه البرلماني؛ لأن هذا الدخول لا بد فيه من ضريبة الدفع, فلا بد أن تقول في قضايا المرأة كذا, وفي القضايا الطائفية تقول كذا, وقضايا الولاء والبراء تلغيها تماماً من القاموس, وقضية التوحيد والشرك والبدع، فلابد من عملية تقليم أظافر حتى يسمح لك بالدخول في حلبة اللعبة السياسية، فاللعبة السياسية لها ثمن, والدعوة السلفية بالذات لا يصلح أن تدفع هذا الثمن, ويوم أن يكون هناك ضمانات أنها لن تدفع هذا الثمن فهذه قضية أخرى, لكن الواقع الأليم يشهد بالتنازلات التي تتم من رموز كبيرة جداً على مستوى العالم, وللأسف الشديد نسمع تصريحات تدع الحليم حيراناً من شدة شذوذها عن كلام أهل العلم، بل عن مسائل الإجماع, فلا يستطيع أن يتأهل لهذه الوظيفة -وهي حراسة الدين وصيانته من البدع ومن الشركيات ومن الانحرافات ليصل للأجيال المقبلة نقياً من هذه الانحرافات- سوى التيار السلفي على مستوى العالم كله.
التيار السلفي نظرته لقضية الحكم نظرة معتدلة, التيار السلفي يرى أن الواجب في كل مرحلة هو ما يستطاع في تلك المرحلة, ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, ونظرية أن الحكم غاية في حد ذاتها هذه نظرية غير دقيقة, فبعض الكتاب مثل سيد قطب رحمه الله أو المودودي رحمه الله وغيرهما كانوا يتكلمون دائماًَ على موضوع الحكم الإسلامي، وكأن الحكم الإسلامي نظارة لابسها على عينيه, ومن خلالها يفسر كل القرآن الكريم كما في الظلال, فيجعل قضية الحكم هي القضية المحورية حتى قال المودودي: إن الغاية من بعثة الأنبياء هي إقامة الحكومة الإسلامية.
بل تجاوز المودودي رحمه الله تعالى إلى قوله: إن من الأنبياء من نجح في إقامة الحكومة الإسلامية ومنهم من كذا! وكبرت كلمة، فالأنبياء لا يوصفون بالفشل، فالواجب أن تبلغ الحق، فمن الأنبياء من يأتي يوم القيامة ومعه واحد فقط، ومن الأنبياء من يأتي ومعه اثنان استجابا له، ومنهم من يأتي وليس معه أحد، فالمسألة أنك تبلغ الحق وتؤدي ما عليك بغض النظر عن النتيجة، فقضية الحاكمية هي جزء من قضية التوحيد, وليست كل القضية, الإمامة أو الحكم هي القضية الجوهرية عند الشيعة أساساً, فالإمامة عند الشيعة صلب الدين، بل يوجبونها على الله، ويعتقدون أنه يجب على الله ألا يترك الأمة إلا بإمام، وهذا تأثر بالمنهج الاعتزالي الضال, أما نحن فنقول: وجوبه على الأمة وليس على الله سبحانه وتعالى كما يدعي المعتزلة والإمامية، فنظرتنا للحكم أشمل وأوسع, ففي كتب أصول الفقه في بحث الحكم يذكرون الحكم والحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه إلى آخر هذه الأقسام, فالحكم في الشرع الإسلامي يشمل الحكم بما أنزل الله على نطاق الأفراد وعلى نطاق الجماعات, فيجب الالتزام بشرع الله سبحانه وتعالى ما أمكن، فإذا لم نعش تحت ظل من يحكمنا بالشرع بصورة كاملة ففي هذا الحال نحن ملزمون بأن نمتثل قوله وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فأت بما استطعت مما كلفك الله تبارك وتعالى، فإذا فشلنا في إقامة الحكم أو صار ذلك عسيراً علينا فعلينا أن نقيم حكم الله في أنفسنا، وقد ترجم البخاري في صحيحه باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟ فقد تغيب الجماعة بمعناها السياسي، لكن لا يمكن أن تغيب بمعناها العلمي؛ وذلك لأن الرسول عليه السلام ضمن لنا بقاءها فقال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم أو من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالجماعة بمعنى إقامة الحجة على الناس وحفظ الدين والكيان العلمي الذي يوضح منهج الحق منهج أهل السنة والجماعة؛ لا تغيب أبداً, ولا يمكن أن تزول عن الأرض بالكلية, وقد تتخلف الجماعة بالمفهوم السياسي كما هو وضعنا الآن, لكن لا تتخلف بالمعنى العلمي بسبب التراث السلفي, وبسبب جهود علماء السلفيين في خلال القرون كلها من بداية الصدر الأول إلى يومنا هذا, فهم الذين يحفظون ويحرسون هذا الدين من التحريف، ويحفظون حجة الله قائمة على خلقه, فلا يعني أننا نعجز عن إقامة الحكم أن نترك العمل، فالوظائف الأساسية موجودة، والهدف ليس هو إقامة الحكم فقط, فهذه جزئية من الجزئيات, لكن الهدف هو تعبيد الناس لربهم, فالله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فالهدف هو تعبيد الناس لربهم ما أمكن, فأنت تبذل كل ما تستطيع في الدعوة فعلي أن أسعى وليس علي إدراك النجاح.