إن الناس على أقسام فيما يتعلق بالعلو والفساد في الأرض، فمن الناس من يريد علواً في الأرض وفساداً كالحكام الظلمة والفسقة والفجرة، فهو يجمع بين أمرين: حب الرياسة والزعامة، والتسلط والقهر والعلو، ويريد أيضاً في نفس الوقت أن ينشر الفساد في خلق الله وإباحة المعاصي، وتيسيرها على الناس، فهذا يريد العلو ويريد الفساد أيضاً.
وهناك قسم آخر يريد علواً ولا يريد فساداً، وتجد هذا أحياناً في بعض أهل الصلاح، يريد العلو والرياسة، ولكنه ينهى عن المعاصي ولا يريد المعاصي، كما قال الشاعر: هلاك الناس مذ كانوا إلى أن تأتي الساعة بحب الأمر والنهي وحب السمع والطاعة وقسم ثالث: وهم الذين لا يريدون علواً ولكنهم يريدون أن يكون الفساد متوفراً لهم، فهذا الصنف يريد فساداً لا يريد علواً، لكن أهل الآخرة هم الذين قال الله فيهم: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (إن الرجل لو أحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية).
يعني: أن يحب أن يتميز على أخيه حتى في شسع النعل، والشسع: هو القطعة من الجلد التي تدخل بين أصبع القدم الكبيرة والتي تليها، فإذا أحب الرجل أن يكون شسع نعله أفضل من غيره فهذه درجة من درجات حب العلو في الأرض، لكن لا بأس أن يحب أن يكون نعله حسناً كما جاء في الحديث الذي ذكرناه، لكن لا يتكبر على من دونه في الدنيا، ولا يكون ممن يريد العلو في الأرض.
قول علي: (إن رجلاً يحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية) قال العلماء: لعل هذا إذا أحب ذلك لافتخر على صاحبه ويستهين به، وإلا فقد جاء في الحديث: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس).
فالكبر عمل قلبي أساساً لكن إذا كان الإنسان ركب سيارة أحسن من سيارة جاره، أو لبس ثياباً معينة حتى تكون ثيابه أفضل فهذا يريد العلو، لكن لا حرج أن تحب الجمال والنظافة والثياب الجديدة، لكن لا لتعلو بها على خلق الله، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا لبس أو استجد ثوباً كان يدعو الله تبارك وتعالى يقول: (اللهم إني أسألك خيره وخير ما صنع لأجله، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع من أجله)، فإنه يصنع ويلبس أحياناً لأجل التفاخر والتعالي على الناس وهذا منهي عنه، ويصنع ويلبس لأجل الستر والزينة وهذا لا بأس به، وكان علي رضي الله عنه يمشي في الأسواق وحده وهو خليفة، يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويأتي إلى البقال والبياع فيفتتح عليه القرآن، ويقرأ تلك الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
نحلم باليوم الذي ينزل فيه الرؤساء إلى الأسواق والشوارع ويتلون هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
ولما قرئت هذه الآية عند بعضهم قال: ذهبت الأماني هاهنا، يعني: الآمال العظيمة التي يأملها الإنسان في الدنيا انقطعت الآن، عند هذه الآية يعرف الإنسان أنه ليس بحاجة إلى علو ولا إلى استكبار على خلق الله.
وجاء عن عمر بن عبد العزيز أنه في لحظة وفاته رضي الله عنه كان يرددها حتى قبض رحمه الله.
وقال أبو معاية: الذي لا يريد علواً هو من لم يجزع من ظلمها، ولم ينافس في عزها، وأرفعهم عند الله أشدهم تواضعاً.
ومر علي بن الحسين وهو راكب على مساكين يأكلون كسراً لهم من الخبز فسلم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فتلا هذه الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ثم نزل وأكل معهم، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني كما أجبت دعوتكم، فحملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وصرفهم.
هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم.