يقول تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6]، فقوله: ((إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) يعني: رزقها قد تكفل الله به وضمنه لها.
يقول الرازي في تفسير هذه الآية: ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة، وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال، والله يحصيها دون غيره، وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها، وما يوافقها وما يخالفها، فالإله المدبر لأطباق السماوات والأرضين، وطبائع الحيوان والنبات، كيف لا يكون عالماً بأحوالها؟! روي أن موسى عليه السلام -عند نزول الوحي عليه- تعلّق قلبه بأحوال أهله، فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة، فانشقت وخرجت صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فانشقت، فخرجت منها دودة كالذرة، وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها! فهذه القصة من الإسرائيليات التي قد تصح أو لا تصح، لكن ما كان منها لا يصادم شريعتنا فلا بأس من حكايته، فتأمل كيف وجد هذه الدودة التي هي كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني.
وقد يكون هذا من كلام القصاصين وهو مذكور في التفسير الكبير للرازي، لكن معناه طيب وجميل، حتى لو لم يحصل، فإن الله عز وجل يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ويسمع كلامها ويرزقها تبارك وتعالى، وهي تقول: سبحان من يراني، ويسمع كلامي، ويعرف مكاني، ويذكرني ولا ينساني، سبحانه وتعالى.
وقال القرطبي رحمه الله: قيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال: الذي خلق الرحى يأتي بالطحين، والذي شدق الأشداق -يعني جوانب الفم- هو خالق الأرزاق.
وقيل لـ أبي أسيد: من أين تأكل؟ فقال: سبحان الله والله أكبر، إن الله يرزق الكلب، أفلا يرزق أبا أسيد؟ وقيل لـ حاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: من عند الله، فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأنما له إلا السماء؟ يا هذا الأرض له، والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض، وأنشد: وكيف أخاف الفقر والله رازقي ورازق هذا الخلق في العسر واليسرِ تكفّلَ بالأرزاق للخلق كلهمْ وللضّبّ في البيداء والحوت في البحرِ يقول: ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب، مع العلم أنه سبحانه المسبب لها، ففي الخبر: (أعقلها وتوكل)، ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة السبب، فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة لسبب أصلاً، يقول ابن أذينة: لقد علمت وما الإسراف من خُلُقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطّلبه ولو أقمت أتاني لا يعنّيني وأنشد أيضاً: مَثَل الرزق الذي تطلبه مَثَل الظلّ الذي يمشي معكْ أنت لا تدركه متّبعاً وإذا ولّيتَ عنه تبعكْ مثل الظل أي: خيال الإنسان على الأرض.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] يخاطب الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأهله هم أهل بيته، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام بعد نزول هذه الآية يذهب عند الفجر إلى علي وفاطمة رضي الله عنهما وينادي: (الصلاة).
فهنا يأمره تعالى وأمته أن يوجهوا هممهم إلى خدمة آخرتهم بالالتزام بطاعة الله تعالى، فلا تشغلهم دنياهم عن آخرتهم، فإذا شُغلوا بطاعة الله أتتهم الدنيا راغمة: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132] يعني: لنفسك ولمن تلزمك نفقتهم، فالكل قد تكفل الله برزقه، فلا تشغل نفسك لأمر الرزق، وأقبل على طاعة الله تعالى.
وقال أبو السعود: أُمر صلى الله عليه وسلم أن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أُمّته بالصلاة بعد ما أُمر هو به، ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة.
((وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) يعني: وثابر عليها غير مشتغل بأمر المعاش، ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا)) يعني: لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أن ترزق أهلك ((نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)).
وقال ابن كثير: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا)) يعني: إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه كما في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأتُ صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك)، وفي الحديث الآخر: (من أصبح والآخرة همّه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا همه فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له) ويقول عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] ويقول عز وجل: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ} [الشورى:19] فقوله: ((لَطِيفٌ)) أي: حفيّ بهم، أو بارّ بهم، أو لطيف بالبر والفاجر، حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] وقال عز وجل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23].
قوله: ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)): قد يقصد بالسماء هنا: المطر؛ لأنه ينزل من جهة العلو، ويكون المعنى: وفي المطر رزقكم؛ لأنه سبب للإنبات في الأرض، يرتزق منه الإنسان والحيوان في الغالب، أو يكون المقصود بالسماء: حقيقة السماء، ويكون المعنى عند ذلك: وعند الله تعالى في السماء تقدير أرزاقكم حسب ما كتبه الله عز وجل في اللوح المحفوظ.
قوله: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) معطوف على: رزقكم، فيكون المعنى: في اللوح المحفوظ -الذي هو في السماء- تقدير أرزاقكم وكل ما توعدون به من خير أو شر في دنياكم وأخراكم.
وقوله تعالى: ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)): هذا قَسَم يؤكد أن الرزق وما وعد الله به عباده مضمون عند الله في كتاب، وهو في أم الكتاب لا يتغير ولا يتبدل، ولا يزيد ولا ينقص، بل لا بد أن يصيب كل مخلوق ما كتب له من الرزق.
وإذا تأملت التوكيد في هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23] فالقَسَم في حد ذاته توكيد، ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ)) حلف وقسم، ثم أتى بالمقسم عليه، وهو جملة أسمية مُصدّره بحرف التوكيد: ((إِنَّهُ لَحَقٌّ)) يعني: هو حق، واللام أيضاً هنا للتوكيد.
وقوله: ((مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ))، واختار النطق على توكيد الرزق وضمانه لدى الخالق جل وعلا لأنه سالم مما يشبهه، يقول بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره.
يقول بعض العلماء: إن وجود هذه التوكيدات الكثيرة في موضوعٍ تكفّل الله تعالى به لا بد وأن يكون لسرٍّ من الأسرار، وذلك السر هو ما في النفس البشرية من جحود ونكران وتخوف وتشكك في هذه المسألة بالذات، والله تعالى عليم بخبايا النفوس، فلما علم ما في نفوس البشر من التخوف والتشكك أكد لهم ذلك بكل هذه التأكيدات ليذهب من نفوسهم ذلك الخوف والشك، فسبحان الذي يعلم مَن خَلَق وهو اللطيف الخبير.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: قال الحسن: بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه، قال الله تعالى: ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ)) [الذاريات:23]).
وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة، إذ طلع أعرابي جلف جافٍ على قعود له، متقلداً سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلّم، وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن -فانظر ذكاء الأصمعي كيف فتح له باب العلم حتى يستوضح ويستزيد ويستفيض- فقال الأعرابي: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتلُ علي منه شيئاً، فقرأت: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:1 - 4] إلى قوله تبارك وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22] فقال: يا أصمعي