هنا تكملة للقصة السابقة عن إبراهيم الذي تلونا قصة سابقاً، وأن أباه كان يشكو منه، يقول هنا: المراهقة هي فترة النمو الاجتماعي، وفيها يميل المراهق إلى إعطاء اهتمام كبير لأوجه النشاط والميول والاتجاهات الخاصة بأقرانه، ويسعى المراهقون إلى الحصول على القبول من أقرانهم، وهم في سبيل الاحتفاظ بهذا القبول يذهبون إلى مدىً بعيد، فيصبح الانحراف عن عرف الجماعة أمر لا يمكن التفكير فيه، طالما أن هذه الجماعات تحقق لهم إشباعاً لم يستطيعوا الحصول عليه في عالم البالغين، ومن ثم تتضح أهمية الجماعة.
استطرد صديقي يقول: ولكنك لم توضح لي بعد ذلك الجانب الآخر الذي تكشفته في سلوك ابني إبراهيم، فما يكاد يجد لديه قدراً من وقت الفراغ أو عطلة أو ما شابه ذلك حتى يسرع إلى مجموعة من رفاقه في الحي الذي نقطنه يقضي معهم ساعات فراغه إلى آخر الكلام يقول: أنا لا أريده أن يخالط أحداً أو يكون له صداقات مع أحد، مع أن هذه الشلة على مستوى طيب من الخلق، ومن بيئة طيبة، بل إن معظم آبائهم هم من أصدقائي، إلا أنني مع هذا أعارض أشد المعارضة أن يتخذ لنفسه أصحاباً؛ لأني أعتقد أنه من الأفضل أن لا يرتبط بمثل هذه المجموعات، وأن يتفرغ للتفكير في دروسه ومستقبله، وبالرغم من بذلي النصح له مراراً عديدة إلا أنه لم ينصرف عن أصدقائه، وإن كان يحاول ظاهرياً أن يظهر لي أنه قد خضع لتعاليمي؛ فما قولك أيها الصديق العزيز؟ فأجبته قائلاً: إن المراهق يواجه مواقف مشكلة تتطلب إيجاد حلول لها، فهو لا يزال فرداً بدون خبرة كافية بعد، بل لا زال في الواقع طفلاً يجد نفسه بسرعة في عالم البالغين، وهو يجد نفسه أيضاً بدوافع جسمية ونمو جسمي وميول وقيم جديدة وفكرة جديدة عن نفسه، وعليه من ناحية أخرى أن يظهر اتجاهات اجتماعية ناضجة وكافية، ومهارات معينة إذا أراد أن يحصل على درجة من التوافق الاجتماعي كشخص بالغ.
كل هذا يؤدي به في النهاية إلى الإحساس بعدم الأمن في مجالات كثيرة من حياته اليومية، ومن ثم فإنه يبحث عن شيء يمنحه الأمن وحماية الذات، وهو يجد ما ينشده في الجماعة من أقرانه الذين لهم مثل مواقفه، فيستطيع باندماجه مع أقرانه أن يحل مشكلاته، وأن تهيئ له الجماعة الانتماء والمكانة التي كان يبحث عنها، كما تمنحه الجماعة أيضاً الخبرات والتدريب اللذين كان يجاهد في سبيلهما، ولهذا فإن الجماعة تصبح هامة جداً بالنسبة للفرد؛ بحيث إن الاستبعاد منها أو عدم وجود مكانة للمراهق فيها يسبب له خبرات صادمة، وباندماج المراهق شيئاً فشيئاً مع أقرانه ومشاركته في نشاط الجماعة تزداد مشاعره بالانتماء إلى الجماعة يوماً بعد يوم، حتى لقد تصبح الجماعة كل شيء بالنسبة له، وهذا الانتماء للجماعة الذي تزداد أهميته بالنسبة للمراهق لأنه يحل محل الروابط الأسرية إلى حد ما، مما يهيئه لأنواع جديدة من التكيف إزاء حياة الجماعة من البالغين.
يقول: إن فائدة هذا الانتماء توفير الأمن، والحصول على مكانة، والشعور بالانتماء، كذلك الجماعة التي يحتك بها تعطيه فرصة أن يتعلم من طريقها شيئاً عن حقوق الآخرين؛ كما أنها تهيئ له مأوى من عالم البالغين، ثم لها في النهاية وظيفة تعليمية هامة؛ حيث يتعلم العمليات الاجتماعية القائمة، ويتخذ الدور الذي ينبغي أن يقوم به فيما بعد، ويتعلم أيضاً المنافسة والتعاون والقيم والأهداف التي تساعده في المشاركة في الحياة الاجتماعية.
نفس الجماعة قد يكون لها تأثير ضار إذا كانت جماعة منحرفة، مثل التدخين والمخدرات كل هذا الفساد يأتي من هذه الجماعة، إذاً: يتعين بالنسبة لمن يريد السلامة لأبنائه في هذه المرحلة ربطهم بالمتدينين.
وقد كنت أود أن أحضر لكم كتاباً مؤلفاً بالفرنسية ومترجماً باللغة العربية، كان البحث يتناول مشكلة انحراف الأحداث؛ والغريب أن الرجل الفرنسي الذي كتب هذا البحث قال كلاماً في غاية الروعة يقول: إن العاصم الوحيد من الانحراف بالنسبة للأحداث أو للشباب المراهقين هو أن يعيش من أجل عقيدة يقتنع بها، ويدعو إليها، ويضحي في سبيلها.
هذا كلام رجل كافر، وإذا كان أكبر ما يحمي الشباب هو أن يعيش من أجل عقيدة يقتنع بها، ويعمل في سبيل نشرها، والدفاع عنها ويضحي في سبيلها، فلا أعظم ولا أنبل من عقيدة الإسلام ومنهج الله سبحانه وتعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، فهذا هو طريق النجاة والسلامة للأبناء، والآباء لو فقهوا لما قلقوا ولا انزعجوا إذا ارتبط أبناؤهم بإخوانهم من الملتزمين في جماعة المسجد أو شلة المسجد؛ لأن هذا هو الذي يعصمهم من كافة المنزلقات في هذه المرحلة.
لكن بعض الآباء يكون عندهم ازدواجية: هذا رجل غربي يقول لك: لن نعطيه الحرية المطلقة والاستقلالية، ونترك له الحبل على الغارب، ويرخي له العنان تماماً بكل أنواع الفساد التي يمكن أن يفعلها! بل حتى في البنات أيضاً يفعلون ذلك، حتى إذا ما التجأ ابن للدين والالتزام ولطاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله عليه السلام والحياة من أجل الإسلام وبالإسلام ينزعج وينقلب إلى وحش كاسر، ونرى على الجهة المقابلة تماماً: الكبت المنع من صلاة الجماعة الخوف عليه أن يفرضوا عليك، وهل إذا انحرف عن سبيل الله سيسلم وسينجو؟ لا! إن الله سبحانه وتعالى قد يبتليه، ويكفي أن يبتلى مثلاً بالمخدرات، ومثل هذا ينتهي تماماً إلا إذا شاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن من أقوى الأسلحة لدى أعداء الإسلام نشر وتهريب المخدرات؛ لأنها تحطم الشخص تماماً من الحياة، وقل من يسلم منها إذا دخل في أسرها، وكذلك التدخين والفساد الأخلاقي والانحرافات، كل هذه تنشأ بسبب البعد عن العقيدة والبعد عن الله.
إذاً: ليس لهذه المحن من كاشفة إلا الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، والثبات على طريق الإسلام الذي هو دين الفطرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت.