ثم قال: وقد سعدت بزيارته سعادة بالغة؛ إذ لا يتحدث في أي مسألة من مسائل الدنيا والآخرة إلا رد أقواله رداً أصولياً إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مع أن الكتاب لا توجد فيه صفحة واحدة فيها عزو لأحد من أهل العلم، ولو فتحت أي صفحة لا تجد فيها أي عزو في الهوامش إلى أي مصدر من المصادر التي ينقل منها، وبهذا يتبين أن الرجل لا يعرف شيئاً اسمه التأصيل العلمي.
ثم قال: ويحدثك عن صحة الحديث أو حسنه أو ضعفه، ويملك عليك شوارد حسك، فإذا استفهمت أجاب ودلل على كل كلمة في إجابته، وذلك هو النمط الذي يجب أن يكون في مجال العمل الإسلامي، لا يركن إلى سقاطيف من كتب، ويدعي بها علماً.
ثم يقول: زارني الدكتور إسماعيل منصور، وتبادلنا أطراف الحديث، وفوجئت بحكم جديد علي في النقاب إذ قال لي: إن حكم النقاب (حرام!!) وقد دهشت لهذا الحكم؛ فإني لم أسمعه من قبل، بل سمعت ما يناقضه، وقال لي: إنه اهتم بهذا الأمر اهتماماً بالغاً، وأعدّ حوله بحثاً، ورجوته رجاء حاراً أن يوافيني بهذا البحث، وفي الأسبوع الماضي أنجز وعده، وأحضر بحثاً مستفيضاً، وقعد يعرض البحث باختصار، وأعلن الدكتور إسماعيل منصور أن توجيه الأحكام الشرعية بدعوى الحماس أمر خطير في الدين؛ لأنه يفضي إلى القضاء على شرف هذه الأمة التي ما قامت إلا على الدليل والبرهان.
ويظل يسرد ويبدئ ويعيد كلاماً في الأدلة والبرهان، واتباع الكتاب والسنة، ونقض من يحيد عنهما، وعادته في ذلك التهويش والتهويل؛ ليطلق هذه النصوص كستار من دخان يختبئ الزحف من ورائه.
يقول: وانتهى إلى أن وجه المرأة ليس بعورة بأدلة من القرآن كأننا نسمعها لأول مرة.
هذا ذنبك أنت أيها الصحفي؛ كونك في مثل هذا الموقع الحساس -مسئول عن جريدة- إذ كان ينبغي أن تعرض مثل هذا البحث على أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم، فإذا كان صالحاً نشرته، وإلا فلا تفعل.
يقول: فقلت للدكتور إسماعيل منصور: وإلامَ انتهيت في هذا البحث؟ قال: إنه ليس واجباً ولا مندوباً ولا مباحاً وإنما هو تكلف وحرام!! فقلت له: إن نشر هذا البحث على أجزاء يقتضي وقتاً طويلاً.
وفتح له باباً من أبواب الجريدة فوراً، وفي طرفة عين تحول الواجب الذي يعتقده واجباً أو مستحباً إلى حرام، وسمح له بالنشر فوراً! لو أتاك رجل لبس الحق بالباطل، وبحث وفق الأدلة -كما يزعمون- وأفتى بوجوب شرب الخمر، ووضع بحثاً له عنوان، بحيث يكون العنوان جميل ومسجوع مثل (إيضاح الأمر في وجوب شرب الخمر) هل تقول له: أنا أول مرة أسمع هذه الفتوى.
ثم تنشر له البحث فوراً، وتجعله باباً ثابتاً تفرضه على القراء لمدة تسعة أو عشرة أشهر؟!! ما أسوأ ظن هذا الصحفي بعقول القراء!! هل كل الناس مغفلين هكذا؟! قد تستطيع خداع كل الناس بعض الوقت، أو بعض الناس كل الوقت، لكن أن تخدع كل الناس كل الوقت فلن يستطيع أن يفعل هذا أحد.
فإذاً: هذه المسألة ما هي إلا قنبلة إعلامية فجّرت حتى تنفق الجريدة أكثر، أو حتى تلهي الناس عن واقعهم الأليم، وإلا فماذا؟!! يقول: فقلت له: ويحسن أن نختار له عنواناً.
ليست المشكلة في الصحف الآن أن تبحث كيف صار الواجب حراماً؟! لكن المشكلة عندهم الآن: ما هو أنسب عنوان لهذا البحث القيم؟! يقول: واقترحتُ أن نطلق على هذا الباب اسم: تأثيم وعقاب من تتكلف النقاب.
انظر إلى صحبة السوء التي كانت تجتمع في هذا الوقت وتتآمر لاختيار عنوان للبحث، وهؤلاء هم الأُمناء جداً!! وجعلوا عنواناً بخط عريض في الجريدة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب!!) ولأن مستوى البحث في بعض الأشياء يصعب على عوام الناس هضمه، فيكفي أنك تظل لمدة عشرة أشهر تنشر عنواناً عريضاً في الجريدة: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) وهذا التكرار أسلوب من أساليب الصحافة المغرضة، وهي قاعدة: (ما تكرر تقرر) فكثرة التكرار يحفّظ الجماهير والعوام هذه العناوين.
تمشي الآن الأخوات المنقبات في بعض الأماكن، فيراهن العوام الجهلة -لأنهم بيد من يقودهم- فإذا بهم يعيّرون الأخوات وينكرون عليهن، ويقولون: النقاب هذا حرام!! الآن العوام يُفتون في الشوارع؛ بسبب هذا المبتدع، وبعض الخطباء الجهلة انبهر أيضاً بالكلام، وخصص خطب الجمعة لمهاجمة النقاب! سبحان الله ما أشد غربة الإسلام في أهله!! وأول عنوان كانوا قد اختاروه لهذا البحث: (تأثيم وعقاب من تتكلف النقاب) فاعترض أحدهم قائلاً: حتى من ارتدته بغير تكلف فهي آثمة! فاختار صديق أن يكون اسمه: (النقاب تكلف معاب يستوجب الإثم والعقاب!!) فقلت -أي: الصحفي-: إن كلمة معاب فيها تكلف واصطناع، فذكر ثالث عنوان: (القول بتعميم النقاب تكلف يستوجب العقاب) فقال الدكتور إسماعيل منصور: هذا تأثيم لمن يقول بذلك، وهو حق! غير أن البحث متوجه لاتخاذ النقاب رداءً.
فهتف الأخير: وجدتها! وانتبهنا إليه، فقال: (القول في النقاب أن من تركه يثاب) فقلت: إن هذا يصح في الحرام والمكروه، وقد انتهى الدكتور إسماعيل منصور إلى أنه حرام.
قلتُ: إذاً نسميه: (حكم النقاب في الإسلام أن ارتداءه حرام) قال: نقترح غيرها ونوازن بينها.
فقال صديقنا: (فصل الخطاب بتحريم النقاب) فقال الدكتور إسماعيل منصور: أنا رأيي صحيح! ولكنه يحتمل الخطأ -مع أنه يرى أن رأيه لا يحتمل الخطأ كما سيأتي- ولذا فلا أسميه فصل الخطاب.
كأنه يريد هنا أن يتشبه بالأئمة في تورعهم عن الفتيا بغير علم.
فقال: لو أطلقنا عليه: (إرشاد الأصحاب إلى تحريم النقاب) أو: (تبصير الأصحاب في تحريم النقاب) ثم رجع إلى نفسه وقال: ولكن الإرشاد والتبصير قد يكون فيه نوع من الاستعلاء، وأعوذ بالله منه!! ثم قال: لو أطلقنا عليه: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) لكان أجدر؛ لأننا أُمرنا بالتذكير في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10] وانشرحت صدورنا لهذا التعبير، واتخذناه عنواناً لهذه السلسلة من المقالات الشيقة التي فيها من العلم الكثير، وفيها من الفائدة ما هو غزير، وأمتع ما في هذه السلسلة هو طريقة البحث، والمثابرة على الحق! والوقوف في وجه الموجة وإن كانت عالية، وفي مقابلة القوة وإن كانت عاتية، وعدم الخوف من الاتهام بالخروج على المألوف، ومن بعض الأشخاص الذين رفعوا أنفسهم أو رفعهم الناس إلى مرتبة التخويف، واعتبار كلامهم بمنزلة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.