هناك مذهب آخر في هذه المسألة، ونحن نذكر هذه الأدلة من باب أن الإنسان يكون على معرفة بمذهب من يخالفه، وأنه يعتمد على أدلة لا على هوى؛ حتى يفرق بين الإنكار في المسائل المتفق عليها والمسائل المختلف فيها، ويرتفع أفق الإنسان بمعرفة مآخذ المذهب المخالف، فمن العلماء من يمنعون القيام للقادم مطلقاً، وممن ينتصر لهذا القول العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، واستدل بحديث أبي مجلز قال: دخل معاوية بيتاً فيه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر، فقام ابن عامر وثبت ابن الزبير، وكان أدربهما -وفي بعض النسخ: أرزنهما، لكن الأصح أدربهما- فقال معاوية: (اجلس يا ابن عامر!).
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، قال الألباني: صحيح، رجال إسناده ثقات، رجال الشيخين، قال: وللحديث شاهد مرسل في قصة طريفة، أخرجه الخطيب من طريق عبد الرزاق بن سليمان بن علي بن الجعد، قال: سمعت أبي يقول: لما أحضر المأمون أصحاب الجواهر فناظرهم على متاعٍ كان معهم، ثم نهض المأمون لبعض حاجته، فقام كل من كان في المسجد إلا ابن الجعد فإنه لم يقم، قال: فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب، ثم استخلاه -أي: خلا به- فقال له: يا شيخ! ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك، قال: أجللت أمير المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وما هو؟ قال: علي بن الجعد: سمعت المبارك بن فضالة يقول: سمعت الحسن يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار).
قال: فأطرق المأمون متفكراً في الحديث، ثم رفع رأسه فقال: لا يشترى إلا من هذا الشيخ، قال: فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار.
يقول الألباني: فصدق في علي بن الجعد -وهو ثقة ثبت- قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]؛ لأنه إذا خالف التجار الآخرين خشي ذهاب البيع عليه، ولكنه خشي أن يخالف نهي النبي عليه الصلاة والسلام، وعومل الآخرون بنقيض قصدهم، وفاتتهم البيعة! ونحو هذه القصة ما أخرجه الدينوري في المنتقى من المجالسة قال: حدثنا أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن العدل وغيره من العلماء، فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم، فقام الناس كلهم إلا أحمد بن العدل، فقال المتوكل لـ عبيد الله: إن هذا الرجل لا يرى بيعتنا -يعني: أنه لم يقم لي لأنه لا يعتبرني، ولا يعتد بإمامتي- فقال له: بلى يا أمير المؤمنين! ولكن في بصره سوء، يعني: نظره ضعيف فلم يرك، فقال أحمد بن العدل: يا أمير المؤمنين! ما في بصري من سوء، ولكنني نزهتك من عذاب الله تعالى؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فجاء المتوكل وجلس إلى جنبه! وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن الأوزاعي قال: حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا.
يقول الألباني رحمه الله في فقه الحديث: دلنا هذا الحديث -يشير إلى حديث: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) - على أمرين: الأول: تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له، وهو صريح الدلالة؛ بحيث إنه لا يحتاج إلى بيان، يعني: أن الوعيد الذي فيه (فليتبوأ مقعده من النار) وعيد شديد جداً، كما في قوله: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، فهذا من الكبائر القلبية الغليظة، ولا خلاف في هذا.
الثاني: كراهة القيام من الجالسين للداخل ولو كان لا يحب القيام، وذلك من باب التعاون على الخير، وعدم فتح باب الشر، وهذا معنىً دقيق دلنا عليه راوي الحديث معاوية رضي الله عنه، وذلك بإنكاره على عبد الله بن عامر قيامه له، واحتج عليه بالحديث، وذلك من فقهه في الدين، وعلمه بقواعد الشريعة التي منها سد الذرائع، ومعرفته بطبائع البشر، وتأثرهم بأسباب الخير والشر.
يعني: أنه يعتمد على قاعدة سد الذرائع؛ ولذلك قال بالكراهة ولم يقل بالتحريم، يقول: فإنك إذا تصورت مجتمعاً صالحاً كمجتمع السلف الأول لم يعتاد القيام لبعض فمن النادر أن تجد فيهم من يحب هذا القيام الذي يرديه في النار، وذلك لعدم وجود لما يذكره به، وهو القيام نفسه، وعلى العكس من ذلك: إذا نظرت إلى مجتمع كمجتمعنا اليوم قد اعتادوا القيام المذكور، فإن هذه العادة -لا سيما مع الاستمرار عليها- تذكره به، ثم إن النفس تتوق إليه، وتشتهيه؛ حتى تحبه، فإذا أحبه هلك، فكان من باب التعاون على البر والتقوى أن يترك هذا القيام، حتى لمن نظن أنه لا يحبه؛ خشية أن يجره قيامنا له إلى أن يحبه، فنكون قد ساعدنا على إهلاك نفسه، وهذا لا يجوز.
ومن الأدلة الشاهدة على ذلك: أنك ترى بعض أهل العلم -الذين يظن فيهم حسن الخلق- تتغير نفوسهم إذا ما وقع نظرهم على فردٍ لم يقم لهم! هذا إذا لم يغضبوا عليه، ولم ينسبوه إلى قلة الأدب، ويبشروه بالحرمان من بركة العلم؛ بسبب عدم احترامه لأهله بزعمهم، بل إن فيهم من يدعوهم إلى القيام، ويخدعهم بمثل قوله: أنتم لا تقومون لي كجسم من عظم ولحم، وإنما تقومون للعلم الذي في صدري! وكأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يكن لديه علم؛ لأن الصحابة كانوا لا يقومون له، أو أن الصحابة لا يعظمون النبي عليه الصلاة والسلام التعظيم اللائق به، فهل يقول بهذا أو ذاك مسلم؟! ثم يقول الشيخ رحمه الله: ومن أجل هذا الحديث وغيره ذهب جماعة من أهل العلم إلى المنع من القيام للغير، كما في فتح الباري.
ثم قال: ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس، ولو كان في شغل نفسه؛ فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها؛ فتتلقاه وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس؟ أي: أن الإمام مالك سئل عن امرأة حينما يدخل عليها زوجها تبالغ في إكرامه؛ فأول شيء أنها تتلقاه وتقابله، ثم تنزع ثيابه، ثم تقف حتى يجلس؛ إكراماً لزوجها، فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا؛ فإن هذا من فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز.
يقول الألباني: قلت: وليس في الباب ما يعارض دلالة هذا الحديث أصلاً، والذين خالفوا فذهبوا إلى جواز هذا القيام بل استحبابه استدلوا بأحاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف، والكل عند التأمل في طرقها ومتونها لا ينهض للاستدلال على ذلك.
ومن أمثلة القسم الأول: حديث: (قوموا إلى سيدكم)، ففيه زيادة في الحديث: (فأنزلوه).
لأنه كان مجروحاً.
ومن أمثلة القسم الآخر الضعيف: حديث قيامه صلى الله عليه وسلم حين أقبل عليه أخوه من الرضاعة، فأجلسه بين يديه.
فهو حديث ضعيف معضل الإسناد، ولو صح فلا دليل فيه أيضاًَ.
ثم ذكر في موضع آخر حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما كانوا يعلموا من كراهيته لذلك).
قال: إسناده صحيح على شرط مسلم.
ثم قال الألباني رحمه الله: وهذا الحديث مما يقوي ما دل عليه الحديث السابق من المنع من القيام للإكرام؛ لأن القيام لو كان إكراماً شرعاً لم يجز له صلى الله عليه وسلم أن يكرهه من أصحابه، وهو أحق الناس بالإكرام، وهم أعرف الناس بحقه صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فقد كره الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القيام له من أصحابه، فعلى المسلم -خاصة إذا كان من أهل العلم وذوي القدوة- أن يكره ذلك لنفسه؛ اقتداءً به صلى الله عليه وسلم، وأن يكرهه لغيره من المسلمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)، فلا يقوم له أحد، ولا هو يقوم لأحد، بل كراهتهم لهذا القيام أولى بهم من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم إن لم يكرهوه اعتادوا القيام بعضهم لبعض، وذلك يؤدي بهم إلى حبهم له، وهو سبب يستحقون عليه النار، كما في الحديث السابق، وليس كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه معصوم من أن يحب مثل هذه المعصية، فإذا كان مع ذلك قد كره القيام له؛ كان واضحاً أن المسلم أولى بكراهته له.