نختم الكلام بفتيا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في القضية؛ فإنه رحمه الله تعالى سئل عن النهوض والقيام الذي يعتاده الناس من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر هل يجوز أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطناً، وربما أدى ذلك إلى بغضٍ وعداوة ومقت، وأيضاً المصادفات في المحافل وغيرها، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض والانخفاض، هل يجوز ذلك أم يحرم إلى آخر السؤال؟ يقول رحمه الله: الحمد لله رب العالمين، لم تكن عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه عليه السلام، كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لم يكن شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك)، لكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له.
أي: إذا قدم مسافر -مثلاً- فيمكن أن تقوم لتحييه أو تلتزمه وتسلم عليه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لـ عكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم)، وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه.
يقول شيخ الإسلام: والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحدٌ عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع ألا يقر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد.
وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة؛ فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له.
يعني: من كان يعلم أن هؤلاء الناس إذا دخل عليهم قادم لا يقومون؛ لأنهم سنيون سلفيون، ولأنهم يعلمون الحديث، ويقصدون بذلك معنىً شرعياً، وهو: الاقتداء بالسلف وبالصحابة بفعلهم، وهو يعلم أنهم يفعلون ذلك تديناً؛ فلا يجوز له أن يكره ذلك منهم، ولكن كلام شيخ الإسلام فيمن إذا دخل ولم تقم له، وهو لا يعلم هذا الحكم، ولا يعلم هذه الأحاديث، ولا يعلم أنهم يتدينون بذلك، بل يرى هذا تنقص، وأنهم لا يحترمونه؛ فأجاز شيخ الإسلام حينئذ القيام إذا كان في تركه فسادٌ لذات البين.
يقول شيخ الإسلام: وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)؛ فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد.
هذا تأويل شيخ الإسلام لهذا الحديث، يعني: أن يكون جالساً وهم يقفون على رأسه، وليس المراد أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له، فالقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد.
وقد ثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه صلوا قياماً فأمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً)، فنهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد، وإن كان هذا الحكم نسخ فيما بعد، وقال: (لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً)؛ لأنه كان جالساً وهم كانوا قائمين، فنهاهم عن ذلك، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبهوا بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.
يقول شيخ الإسلام: وجماع ذلك كله الذي يصلح: اتباع عادات السلف وأخلاقهم، والاجتهاد عليها بحسب الإمكان؛ فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة؛ فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما.
وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.