ومن تلك الإجراءات المقصود منها حماية المرأة وحماية الرجل -أيضاً- من الافتتان بها تحريم الخلوة بالأجنبية، وحقيقة الخلوة: أن ينفرد رجل بامرأة أجنبية في غيبة عن أعين الناس.
فالخلوة بالأجنبية بلا شك من أعظم الذرائع، وأقرب الطرق إلى اقتراف الفاحشة الكبرى، وقد صرح القرطبي رحمه الله تعالى بأن الخلوة بغير محرم من الكبائر، خلوة الرجل بالمرأة بغير محرم هي من كبائر الذنوب، وبعض الناس لا يفهم ولا يريد أن يفهم، ويقول: قلبي سليم ونيتي حسنة! كل هذا الكلام الذي ما حدثت جريمة إلا وكانت هذه مقدماتها، فدائماً تكون مقدمة هذه الجرائم مثل هذا الكلام الذي لا ينطلي على الإنسان الذي يفقه عن الله أمره، فيقول: نيتي سليمة، وهذه مثل أختي، وهذه مثل أمي إلى آخر هذا الكلام، فهو يتصور أن المحرم هو فعل الفاحشة، أما الخلوة فليس فيها مشكلة لأن قلبه سليم ونيته سليمة، والله سبحانه وتعالى قال في القرآن الكريم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالله سبحانه وتعالى أعلم بنا من أنفسنا وهو اللطيف الخبير، شريعته ما جاءت للتعنيف ولا للمشقة، وإنما أتت رحمة بنا، وحماية لنا وصيانة لأعراضنا، فالله أعلم بمن خلق، وقوله: (من خلق) تعم الإنسان الرجل والمرأة، وتعم أيضاً الشيطان، فالله أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم (أنه ما اجتمع رجل بامرأة) يعني بغير محرم (إلا كان ثالثهما الشيطان) فهذا خبر الله وهذا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله وصدق رسوله، وكذب المنافقون الذين يجادلون في الحق بعدما تبين، يقول مجاهد: فالخلوة بغير محرم من الكبائر وهو أيضاً من أفعال الجاهلية، كما صرح بذلك العلماء، قال مجاهد في قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] قال: لا تخلو المرأة بالرجال.
وقال عبد الرحمن بن زيد: لا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم.
والحقيقة أن الإنسان العاقل -لا الذي أصاب عقله ضعف وخور -هو الذي يدرك هذه الأشياء، فهي إجراءات في منتهى المنطقية ومعقولة، والإنسان العاقل نفسه يدركها ببساطة وبسلاسة، ونلاحظ -مثلاً- أن تقسيم الناس بالنسبة للمرأة أو بالنسبة للرجل إلى محارم وأجانب تقسيم منطقي جداً، والمقصود -كما قلنا- هو حماية الأعراض، حماية المرأة من فتنة الرجال، وحماية الرجال من فتنهن، وفي نفس الوقت فإن هذا التقسيم يترتب عليه أحكام فطرية، فالخلوة والنظر والسفر إنما تحرم بالنسبة للأجنبية، ولكن تباح الخلوة لمن يباح له أن يستحلها وهو الزوج، أو لمن هو مأمون عليه من المحارم كأخيها وأبيها وابنها، فهؤلاء جميعاً يؤمنون على المرأة، يودع الله سبحانه وتعالى في قلوبهم ما ينفرهم عن التطلع إلى النساء ذوات المحارم، ولذلك يباح للمرأة أن تتزين لزوجها، ويمكن أن تظهر زينتها العادية في ثياب المهنة -مثلاً- أمام أخيها أو أمام أبيها؛ لأنهم محارم ويؤتمنون عليها، لكن منعت من إظهار ذلك أمام الأجنبي لأنه لا يؤتمن عليها، وقد تترقى الأمور خطوة خطوة إلى أن يقع ما حرم الله سبحانه وتعالى، فهذا الكلام يقبله الإنسان العاقل، ولا يعارضه إلا الإنسان الذي في قلبه مرض والعياذ بالله، الذين عندهم مرض وفساد في القلوب وضعف في العقول هم الذين يجادلون في الحق بعدما تبين، فهذا كلام منطقي، وأي إنسان عاقل حتى لو كان غير مسلم يستسيغه إذا كان المفروض حماية المرأة وإذا كان العِرض له قيمة عنده، أما من كان عنده العرض ليس له قيمة فمن الطبيعي أن يحصل عنده ما يحصل في المجتمعات الغربية وفيمن اقتفوا واقتدوا بهم من الفساد وضعف الغيرة والتحلل وانعدام الحياء، وغير ذلك من شيوع الفواحش فيما بين هؤلاء الناس؛ لأن العرض ليس له عندهم أي قيمة على الإطلاق، ولا يعرفون أصلاً كلمة العرض ولا الشرف، بل عندهم البنت إذا وصلت سن الثامنة عشرة ولم تتخذ لها خليلاً تعيش معه كالأزواج تعرض على الطبيب النفساني، والولد إذا لم يفعل نفس الشيء في نفس السن أو قبل ذلك بقليل فإن أصدقاءه يعيرونه ويتهمونه بصفات مضادة للرجولة؛ لأنه لم يتخذ خليلة! فأمثال هؤلاء ينبغي أن نضعهم في الموضع اللائق بهم، فلا نقول: إنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً كما وصفهم الله تبارك وتعالى، لا أن نفتتن بهم وأن نجعلهم القدوة ونرتضيهم قدوة بدلاً من سلفنا الصالح الذين هم خير قدوة رحمهم الله تعالى أجمعين.
خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدرجة الهلاك، فينبغي في هذا الباب أن لا يأمن الإنسان على نفسه ولا من نفسه، بل الإنسان كما قال بعض السلف: من أعطى من نفسه أسباب الفتنة أولاً لم ينج آخراً، وإن كان جاهداً، فالشيطان -كما ذكرنا- لا يأتيك مباشرة ويأمرك بالحرام، لكنه يستدرجك خطوة بعد خطوة ويستنزلك درجة بعد درجة إلى أن يهون عندك ما كنت تستفظع إتيانه أو فعله، ولذلك قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]، وقال تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، وقال عز وجل أيضاً: {وَلا تَقْرَبُوا الزنا} [الإسراء:32]، وإنما قال: (تقربوا) لأنه عبارة عن خطوات، فالزنا حرام وكل ما أدى إليه حرام كما سنشرح ذلك بالتفصيل، فالإنسان عليه أن يتصرف في هذا الباب كأن سبعاً ضارياً كامن في داخله، وإنه إذا أتى شيئاً من هذه المحرمات فإن هذا السبع يخرج ويهلكه ويوقعه فيما حرم الله تبارك وتعالى، ولذلك فإن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدعاة للهلاك ومدرجة للإثم والفجور، وكيف لا يكون كذلك والفرصة سانحة وقد تركت الخلوة لهذه الأمور أن تستيقظ، فأي فعل من الأفعال يمر بمراحل عدة، أولها: مرحلة النزوع أو الرغبة أو الميل إلى الفعل، ثم مرحلة الوجدان أن يجد الشخص ويعزم على الفعل، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التنفيذ، وهذا الباب هو الذي نتكلم فيه باب الافتتان بهذه الشهوة، فهناك طبيعة في هذا الكائن البشري، أن الإنسان إذا اتقدت نار الشهوة واستيقظ فيه الحيوان فإنه يندفع إلى الفعل إن لم تحجزه التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى، فمن ثم رأينا القرآن الكريم ينهى عن الاقتراب من أسباب الزنا فيعالج هذه الجريمة الخلقية بحجز النفس عن أسبابها، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزنا} [الإسراء:32] بينما نلاحظ أن هذا فعلاً هو دين الفطرة، فالله سبحانه وتعالى لم ينهنا في آية أو في حديث عن أكل الطين أو الرمل -مثلاً- أو شرب البول؛ لأن في فطرتنا نفوراً من هذه الأشياء، فلذلك الشرع ما تعرض لهذا واكتفى بوجود النفور، فالخطر من تعاطي مثل هذه الأشياء لم يتعرض له أصلاً بنهي، كذلك لما نهانا عن القتل ما قال: ولا تقربوا القتل.
وإنما قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] مع أن القتل جريمة بشعة والقتل من أعظم الكبائر والجرائم بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، لكن النفس بطبيعتها تأبى القتل وتنكره، فلذلك أتى النهي عن الفعل مباشرة فقال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) أما في هذا الوزر خاصة فإن الله سبحانه وتعالى قال فيه: (ولا تقربوا) فينبغي للأخوة في حوارهم مع الناس أن ينبهوا لهذا الأمر، كحكاية: (إن قلبي سليم) و (نيتي سليمة) و (قلبي طاهر وما يؤذي أحد) كل هذا الكلام لأن الإنسان لا يستحضر أن مجرد الخلوة معصية، حتى لو وجد رجل وامرأة في مكان في خلوة ولم يخطر ببال أي منهما أي شيء فقد ارتكبا الوزر وسجلت ودونت المعصية في حقهما؛ لأن الخلوة في ذاتها حرام، وليست حراماً فقط إذا أدت إلى الفاحشة، لكن الخلوة لذاتها حرام، والحكمة من تحريمها أنها ذريعة للفاحشة وذريعة إلى القيل والقال والطعن في الأعراض، ولذلك قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا) فهذا كله يرينا إلى أي حد يسد الإسلام على هذه الجريمة كل من منفذ، ويحجب النفس عن أسبابها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية وشدد في ذلك، فالإسلام جعل بين الرجال وبين النساء الأجانب أسلاكاً شائكة، وهذه الأسلاك الشائكة كي تحجب الأجانب من الرجال عن النساء وقاية للطرفين من هذه الفتنة، وتأكد أنك إذا تتبعت خطوات ومراحل أي قصة في جريدة حصل فيها انتهاك للعرض أو العدوان عليه أو الوقوع في هذه الفاحشة -والعياذ بالله-، إذا تتبعت القصة من أولها ستجد أن البداية كانت ثغرة في الأسلاك الشائكة، ثغرة بسيطة في الأسلاك الشائكة مر وعبر من خلالها الشيطان وتسبب في وقوع هذا الفحش، فالبداية تكون في أن الله أمره من ضمن الأسلاك الشائكة بغض البصر، فلم يمتثل أمر الله وأطلق بصره، فوقع في العشق -مثلاً- وما يتلوه من ترك الدين والدنيا، أمره الله بأن لا يمس أجنبية فصافح المرأة الأجنبية وتلا ذلك ما تلاه من الحرام، نهاه عن الدخول عن المغيبة التي غاب زوجها، نهاه عن الخلوة بالمرأة وعن السفر معها، أو نهى عن سفر المرأة وحدها، فتجد أن هذه الأسلاك الشائكة حصل فيها ثغرة، ومن خلالها نفذ الشيطان فأوقع العباد في حبائله، فإذاً هذا كله يتطرق مع الحكمة العظيمة في صيانة الأعراض، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)، ومنها حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالهما الشيطان) وهذا يعم جميع الرجال (ألا لا يخلون رجل) يعني: أي رجل (بامرأة) أي امرأة، فالحديث يعم جميع الرجال ولو كانوا صالحين ومن أولياء الله، أو مسنين شيوخاً هرمين فهم فيدخلون في الحديث؛ لأن الحديث قال: (لا يخلون رجل بامرأة) سواء أكانوا رجالاً صالحين أم مسنين، أو كانت النساء صالحات أو عجائز، ومنها حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن الن