أما النوع الذي تكلمنا عنه آنفاً -وهو نذر المعاوضة- فهو كقول الإنسان: لئن شفى الله مريضي لأفعلن كذا.
أو: لئن حصل كذا لأذبحن كذا.
فهذا داخل في الكراهة، وهذا مرفوض كما بينا.
ومن العلماء من قال بتحريمه؛ لأنه لا يخلو من سوء أدب مع الله تبارك وتعالى، فإنه إن لم يشف الله مريضك فماذا ستفعل؟! لن تتصدق، وإذا لم ينجح ابنك في الامتحان فلن تصوم، فهذا فيه سوء أدب مع الله، ومن أجل ذلك حرمه بعضهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تبارك وتعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة ومما افترض عليهم، فسماهم الله أبراراً: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:5 - 7] أي: فسماهم الله أبراراً لأنهم كانوا ينذرون طاعة الله تبارك وتعالى من هذه الأنواع التي افترضها عليهم كالصلاة والصيام والزكاة والحج وما إلى ذلك، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة.
وقال الحافظ رحمه الله قبل ذلك: وجزم القرطبي في (المفهم) بحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة، فقال: هذا النهي -يعني: النهي عن النذر- محله أن يقول -مثلاً-: إن شفى الله مريضي فعلي صدقةٌ كذا.
ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكورة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تبارك وتعالى.
فكونه علق هذا النذر أو العبادة كالصيام أو الصلاة والصدقة أوالنسك أو الذبح أو أي شيء من هذا على حصول غرض من الأغراض دل على أنه لم يخلص فيه، ولم يمحض النية ولم يخلصها صافية لمجرد التعبد لأجل الله تبارك وتعالى فحسب، وإنما يريد المجازاة، يعني: إن رزقه الله كذا فسوف يفعل كذا، وإن شفى الله مريضه فسوف يفعل كذا، فهذا هو الذي يحمل عليه ما ورد في النهي عن النذر.
يقول الحافظ: ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكرة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى لما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، فيوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يخرج شيئاً إلا بعوض عاجل، يزيد على ما أخرج غالباً، وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث بقوله: (إن النذر لا يؤخر شيئاً من قضاء الله، ولا يدفع شيئاً من قضاء الله، وإنما يستخرج به من البخيل).
أي: أن هذه عادة البخيل لا يبذل إلا إذا حصل على عوض عاجل، وغالباً يكون العوض أكثر وأكبر مما تطيب به نفسه، فلذلك إنما الحديث بهذه الصفة، فيقول هذه حالة البخيل، فإنه لا يخرج من ماله شيئاً إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالباً، وهذا المعنى هو المشار إليه في الحديث بقوله: (وإنما يستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يخرجه)، يعني: لولا النذر لما أخرج شيئاً، وقد ينظم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض.
وهناك محذور آخر في نذر المعاوضة ونذر المجازاة، وهو: أنه ربما توهم الجاهل أنه لن يحصل له شفاء إلا إذا نذر ولن ينجح في الامتحان إلا إذا نذر، فإذا انضم إلى ذلك الاعتقاد أن الله تبارك وتعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، فهذا هو المعنى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث أيضاً: (فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئاً) فإذا انضاف إلى معنى المشاركة والمجازاة والمعاوضة وعدم تمحض النية للتقرب إلى الله بالنذر اعتقاد وتوهم الشخص الجاهل أن النذر يغير من قدر الله، أو أن الله لا يفعل ذلك إلا إذا نذر، فهذا أبطله أيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله: (فإن النذر لا يرد من قدر الله شيئاً)، فالحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأ صريح، ويقصد بالحالة الأولى: أنه يسلك مسلك المعاوضة، يعني: أنه إذا شفى الله مريضه أوفى بنذره، وإذا لم يشف مريضه لا يتصدق بما علقه على شفائه، فهذه الحالة تقرب من الكفر، والحالة الثانية يقول القرطبي: إنها خطأ، ففيها تخاذل خاطئ نتيجة عدم معرفته بهذا الحديث، وعدم ففقه لهذا المعنى؛ لأنه يظن أن هذا الأمر لا يحصل إلا إذا نذر، فيعتبر النذر سبباً من الأسباب المشروعة الموصلة إلى غرضه، وهذا مخالف للشرع، كما في الحديث: (وإن النذر لا يرد من قدر الله تبارك وتعالى شيئاً)، ولذلك قال القرطبي: الحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأ صريح.
إلا أن الحافظ تعقب القرطبي رحمه الله تعالى بقوله: بل تقرب من الكفر أيضاً.
أي أن الحالة الثانية أيضاً تقرب من الكفر.
ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة، وقال: الذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد.
أي: إذا خيف على إنسان هذا الاعتقاد الفاسد وهو أن ينذر نذراً معتقداً أن النذر سبب من الأسباب الشرعية في حصول الغرض، وأن النذر يؤثر في قضاء الله فهذا يحرم عليه النذر، فيكون إقدامه على ذلك محرماً، والكراهة هي في حق من لم يعتقد ذلك.
فهذا الكلام الذي قاله القرطبي فيه تفصيل حسن في هذا الباب.
قال القرطبي: ويؤيده قصة ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما راوي الحديث في النهي عن النذر، فإنها في نذر المجازاة.
وهذه القصة التي يشير إليها القرطبي هي ما أخرجه الحاكم عن سعيد بن الحارث أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سأله رجل من بني كعب يقال له: مسعود بن عمرو فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن ابني كان بأرض فارس فيمن كان عند عمر بن عبيد الله، وإنه وقع بالبصرة طاعون شديد، فلما بلغني ذلك نذرت إن الله جاء بابني بأن أمشي إلى الكعبة.
فجاء مريضاً فمات، فما ترى؟ يعني أن ابنه عاد من البصرة، لكنه عاد مريضاً، ثم لبث مريضاً فمات بعد ذلك، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أولم تُنهوا عن النذر؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل أوف بنذرك).
فأمره أن يفي بنذره.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
ووافقه الذهبي.
ففي هذا الحديث تحذيرٌ للمسلم من أن يقدم على نذر المجازاة، فعلى الناس أن يعرفوا ذلك، حتى لا يقعوا فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
هذا ما تيسر في تفسير ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: لا يأتي النذر على ابن آدم بشيء لم أقدره عليه، ولكنه شيء استخرج به من البخيل؛ يؤتيني عليه ما لا يؤتيني على البخل) وفي رواية: (يؤتيني عليه ما لم يكن آتاني من قبل).
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.