كان الطبيب منهكاً وهو يعود إلى بيته، وفي الطريق كان يمني نفسه بساعة من النوم العميق، ولكنه أخطأ الحساب وأسرف في الأمل، فما إن دخل داره التي تركها من برهة قصيرة وغادرها وهي هادئة ساكنة حتى صارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً، فهاهو يرى سيده -المربية- عاكفة على صرة ضخمة من لوازم الدار، وملابس الصغار والكبار، تنسق شيئاً من فوق أشياء، وإلى جوارها صرة أخرى فرغت من شد وثاقها، والصغيران قد وضعا في ثياب الزينة والزيارات، وزوجته تذهب وتجيء في ركن من الدار إلى درج يؤدي للسطح.
وكانت الخادمة تأخذ الصرر وتضع فيها المتاع.
فظل الطبيب يراقب الحركة في صمت كأنما صام عن الكلام، ولا أحد منهم يتكلم، إلى أن وصل الأمر إلى النهاية، ورفعت الزوجة ابنها الصغير على ذراعها الأيسر وأسندته إلى كتفها، وأمسكت بيد الولد الأكبر، وحملت المربية صرة بعد أخرى -ولم تكن حقائب السفر انتشرت في ذلك الوقت- واستعد الركب للرحيل، وتقدمت الزوجة نحو الباب وهي ثابتة على صمتها، وفي عينيها أثر واضح لدمع تغالبه، وجاءت المربية من خلف سيدتها، والطبيب الذي أجهده عمله طول اليوم ومن بعده لقاؤه المثير بأبيه ساكن في ضيق وصبر، فإن الوقت لم يكن مناسباً لإعلان الغضب.
فتقدم إلى مدخل الدار، واعترض سبيل زوجته وهي توشك أن تنصرف، فتوقف وقال: إلى أين؟ ولا جواب! والصغير على كتفها، والمربية تحمل الصرات، والزوج لا يتحول عن مدخل الدار ولا يسمح لزوجته بالخروج، وهذه حال لا يطول الصبر عليها، فسقطت الأحمال التي على رأس سيده المربية إلى أرض الصالة.
وتقدمت الزوجة من زوجها قائلةً: ابتعد ولا تعترض طريقي! قال: حتى أعرف إلى أين؟ قالت: كنت واهمةً كما أنت واهم الآن تماماً.
قال: كيف؟ قالت: إنما بيننا قد انتهى.
قال: وما الأسباب؟! قالت: ما من سبب ولا غضب، يكفي أن تعلم أنك مجنون، وأنا لا أعاشر المجانين.
ولم يكن الطبيب قد سمع من زوجته الوديعة المهذبة كلاماً كهذا في أشد الأيام التي مرت بهما، وبدا له أنها في حالة من الثورة النفسية التي لا يؤمل معها نقاش ولا حوار، ولذلك لجأ إلى الحكمة وخلى بينها وبين مدخل الدار، وقبع في زاوية من الأريكة يراقب التطورات، فانفجرت براكين الغضب الكامن في أعماق الزوجة، وأغراها سكون الطبيب فسألته في حدّة: أعرّفك لماذا أنت مجنون؟ إنك تصبح وتمسي ولا تذكر إلا الموت، ولا حديث لك إلا عنه وأنه قريب من الآدمي، وكلما خلوت بي أوصيتني بولديك خيراً إذا سبقت المنية إليك، فكيف -يا ترى- تحقق وصيتك فيهم إن كنت تتلف المال بهذه الطريقة؟ أما علمت أن هذا المال هو حصاد تدبيري طوال سنوات انقضت من عمرك في الوظيفة والمهنة جميعاً؟! ثم سكتت تغالب دمعها حتى ملكها الغضب من جديد فقالت: وإلى من دفعت المال؟ إلى من يحترم أصهارك ويحب ولديك؟! إلى من يؤتمن على تربيتهما من بعدك إذا وافاك الأجل صغيراً كما تقول؟! والطبيب كان دائماً يتوقع أن يموت وهو صغير السن، وقد كان الأمر كذلك، فقد مات عن خمس وثلاثين سنة رحمه الله.
ثم أقبلت على زوجها وجلست في مواجهته وعلا صوتها وهي تقول: لقد نظرت في خزانتنا فما وجدت إلا حفنة من الدراهم، وكل ما عندنا من مال للزمن ذهب به أبوك، فمن أبوك هذا؟! لماذا لم يتذكرك إلا حين أظلمت في عينيه الدنيا وسدّت في وجهه أبواب الخلاص؟! أوليس أبوك هذا هو الذي طردك من الدار ليلاً كما تقول؟! أوليس هو الذي أغرى بك الأهل والكنيسة ليطاردوك ويلاحقوك بالأذى وسوء السمعة؟! أوليس هو الذي قاطعك خمس سنوات أو تزيد، ولا يعنيه شيء من أمرك إلا أن يكون شامتاً فيك أو ساخراً منك أو من أبي الذي آواك وزوجك من ابنته! واستمرت الزوجة تكيل له شديد التقريع والتأنيب في غضبة جامحة، والطبيب يتذرع بالصبر، ويلوذ بالصمت، وعلى حين كانت الزوجة لا تزال ترميه بحمم الغضب كان هو يتفكر في اللقاء الذي تم بينه وبين أبيه، وقد شعر بأن حق الوالد كان مرعياً في هذا اللقاء، ولكن ترى ما حال الحقوق الأخرى التي لزوجته وأولاده عليه؟! وتأمل الطبيب الموقف من جديد وهو يسائل نفسه: ترى هل أصبت في هذا التصرف أم أنني قد أصبت في شيء واحد على حين غابت عني أشياء؟ ثم أسلمته الزوجة للتفكير، وذهبت إلى بيت أبيها وتركته بمفرده.
وبعد ثلاثة أيام دخل عليه صهره -الشيخ عبد الحميد - ومعه الأسرة الصغيرة، وسيده تحمل في العودة أضعاف ما حملته عند مغادرة الدار من الصرر، وأقبلت الزوجة وهي تحمل ولدها الصغير وتمسك بيد الكبير إلى حجرة النوم في صمت وخجل، وهي تتجنب النظر إليه، وتختصر في رد المقال عليه، وانسحب النساء والصغار بعد ذلك إلى الداخل، وبقي الشيخ والطبيب يتحادثان.
قال الشيخ: ما عرفت على ابنتي أنها كاذبة أبداً، وإني لأحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ولقد قصّت علي كل ما دار بينكما في الأيام الأخيرة، وذكرت لي ما وجهته إليك من أقوال وأفعال ونعوت، وكذا تصرفك معها، ورأت بعد أن سكت عنها الغضب أنها أخطأت من الألف إلى الياء! قال الطبيب: ما أظنها جرأت -يا عم- على أن تنقل إليك ما ألقت به في وجهي من قصائد المديح والثناء.
قال الشيخ: إنني لا أستبعد -رغم صدقها- أن تكون قد أخفت أشياء من هذا الأمر حياءً مني حين حست بخطئها، ولكن على أية حال فلقد كان القدر الذي ذكرته لي كافياً لإدانتها والحكم ببراءتك، وما بك الآن حاجة إلى إحصاء المزيد من الحيثيات.
وأخذ يذكره بالحقوق والواجبات الأسرية وغير ذلك من الواجبات.
ثم قال له الشيخ -بعد هذه المقدمة-: وفي حالتك -يا دكتور عبده - فأنت أدرى الناس بما حدث، ثم إن والدك هذا قاطعك سنوات طويلة ولم يظهر فجأة في حياتك وحياة أولادك إلا ليستدر عطفك عليه وهو في محنة تمس البيت كله، فبأي حق يطلب منك النجدة؟! ولماذا جاء الآن فقط يرجوك أن تنقذ بيته ومستقبل ابنته وهو يعلم أن الدين قد فرق بينه وبينك وأنك لا ترثه هو ولا أمك ولا أحداً من سائر قرابتك، كما أنهم ليس لهم حق الإرث في مالك؟! كان الطبيب مطرقاً برأسه وهو يستمع، ثم رفع رأسه وهو يجيب على هذا التساؤل قائلاً: لقد أحسنتُ إلى أبي -يا عم- بحق الوصية التي فرضها له الملك الديان، وبحق القرآن الذي آمنت به وجعلته سبيلي إلى طاعة خالقي الذي هداني، أوليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:14 - 15]؟! قال الشيخ: بلى، وصدق الله العظيم.
قال الطبيب: أوليس قد جاء في كتاب الله الكريم المحكم قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]؟! قال الشيخ: بلى، وصدق الله العظيم.
وساد الصمت بينهما برهة تدبر كل من الرجلين خلالها معاني الآيات الكريمة وأهدافها النبيلة، ثم ما لبث الطبيب أن قال: إن هذه الآيات يتلوها كل مسلم ويؤمن بها كل مهتد، وما في ذلك من ريب، ولكن حدثني بربك -يا عم-، فأنت رجل علم وتجربة، ألست ترى معي أن هذه الآيات تأخذ بناصيتي وبناصية كل عبد هداه الله من بين فئة كبيرة على الضلال.
وتذكر الطبيب العناء الذي لاقاه منذ بداية المرحلة الثانوية، ثم قال: لقد جاهداني، وأشهد الله على ذلك، ولعل أبي كان أشد قسوة، لكن أمي كانت تراقبني وتمهد من يراقبني، وتغري بي أبي وإخواني وأخواتي ظناً منها بأن في هذه الملاحقة الخير لي.
ويتابع قائلاً: ثم ضربت الأيام بيننا حجاباً من مشاغل الحياة ومن ضيق النفوس بالقيل والقال، وما أظنني على صواب فيما كان من قطيعة؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فأي معروف هذا وأنا لم أصاحبهما؟! بل كانوا يصرون على قطع ما بيني وبينهما، وأي صنيع سيئ أكون قد صنعت لو أنني تركت أبي يعود من زيارتي ولم أنقذه على حين ظل المال راكداً في خزانتي؟! أتظن -يا عم- أن المال هو الذي يصلح من شأن العيال بعد فقد عائلهم؟ أعتقد أنك تعلم أن الأمر على خلاف ذلك، أما الحق فهو ما أنبأنا به القرآن، حيث يقول سبحانه في سورة الكهف: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82].
ثم قال: أولا ترى معي -يا عم- أن مجيء أبي إلى داري -خاصة بعدما سمع بمولد محمد - قد كان من جانبه كركوب أشد الأهوال وأقساها؟ أولا ترى أن مجيئه إلى بيت ولده الذي عرف حقيقة أمره هو نصر لي من عند الله؟! إنني لا أنكر أن التصرف الذي صدر مني قد مس حقوق ولدي وزوجتي، ولكن المبادرة كانت قضاءً لا فكاك منه، ومع ذلك -يا عم- فإننا -إن يكتب الله لنا عمراً- سننظر فيما تأتي به المقادير إن شاء تعالى.
قال الطبيب ذلك وقد اعتزم في نفسه أمراً.
نهض الشيخ يريد الانصراف بعدما سمع دفاع صهره الطبيب الشاب عن والده، وإذا بابنته تعترضه وتتشبث به لتطيل بقاءه، ورفع الشيخ عصاه في وجه ابنته، لكن الزوج كان قد أسرع إليه وقال: ما هكذا -يا عم- علمتنا أن يكون الإقناع! قال الشيخ لابنته: اسمعي يا هذه: إنك هوجاء لا تعقلين، إنك لا تعرفين قدر هذا الرجل الذي معه تعيشين، فاحمدي الله أن رزقك بمثله، ولتحذري بعد اليوم أي إساءة له أو سوء فهم لراشد تصرفاته، وكان هذا الموقف فاصلاً معي بين عهد لا يخلو من قلق وارتياب وعهد جديد ساده اطمئنان إلى حسن إسلام الطبيب وصدق إيمانه.