لقد حدث ما توقعه الجميع، فالغيورون من أهل عبده -سواءٌ منهم الأقربون والبعيدون- قد بحثوا عنه حتى وجدوه، وحقاً لم يرهقهم البحث؛ لأنهم يعلمون أنه لا ملجأ له إلا صديقيه، وخاصة منزل صدقي.
فتوافدوا عليه جماعات ووحداناً، وتكررت مناقشاتهم معه، وتواكبت ملاحقاتهم له في السكن والعمل، وأراد عبده أن يضع لهذه المناقشات والمضاربات نهاية حاسمة بدلاً مما هو فيه من المتاعب كل يوم وكل لحظة، خاصةً أن مستقبله يوشك أن يبدأ على وجه يرضيه، فقال لهم: ما حاجتكم مني وما هدفكم من مطارداتكم؟ قال أرشدهم-وهو خاله-: يا بني! إنك فرد مرموق في أسرتنا وفي جملة القبط كلهم خُلقاً وحسن سمعة، ثم إنك توشك أن تكون طبيباً، وهذا الذي فعلته خسارة لا نطيقها فضلاً عن أنه فضيحة وعار لأسرتك وللنصارى في مصر وغيرها من البلاد، فهلا استمعت إلينا؟ قال: إني مستمع إليك لعلي بذلك أصل معكم إلى حل يحفظ لي ولكم أوقاتنا ومصالحنا.
قال أرشدهم: إن أباك يدعوك إلى أن تسمع من رجال الدين كلمة الحق، وهم -لابد- أقدر منا على تبيان أوجه الضلال الذي أوقعك فيه خصوم ديننا.
قال الطبيب الشاب: ما أوقعني أحد في ضلال، فافهموا عني هذا، وإنما هداني رب العالمين.
قال قائل منهم: إن كنت مؤمناً بفعلتك هذه عن بينة وحجة فماذا عليك لو أنك واجهت علماءنا؟ قال: لكم ما تريدون.
فسألوه عن المهلة فقال: أي موعد تريدون؟ قالوا: ارجع معنا الآن إلى دارك وهناك نضرب مع أبيك الموعد ليكون برضاه وفي حضوره.
وبعد كثير من الترفق والمحاورة الطويلة انتهى الأمر إلى أنه عزم على الذهاب إلى بيت أبيه، وقبل أن يذهب إلى بيت أبيه توجه إلى الشيخ محمد رشيد رضا -وكان يختلف إلى مجلسه من وقت لآخر- وقص عليه جملة الخبر، فبين له الشيخ ما غاب عنه، وأيده بالأدلة من الكتب القديمة بوجه خاص، كـ (إظهار الحق) و (مقامع الصلبان) وشروح أهل الكتاب، وزوده بالأسئلة المضادة، وكيف يرد على شبهاتهم، وغير ذلك من القضايا التي فاتته في مناقشاته.
وذهب في الموعد إلى دار أبيه، وقد أنفق أبوه بسخاء لإنقاذ ولده الأكبر مما هو فيه، وليمنعه مما هو مقدم عليه، لكنه نفد صبره وهو يرى ابنه يأتي إلى المسكن ليلاً، فلما وصل إلى بيت أبيه بدأت الجلسة هادئة، والكل ينصت لما يدور من قرع الحجة بالحجة، والنصوص حاضرة تتلى من مراجعها على مسمع من الجميع، ولم يعد كبير مجال للتهوين من تصرف الطبيب الشاب على أنه رأي فرد ضال، كما لم يبق مجال للقول بأنه قد وقع تحت عامل الإغراء الذي ربما أحاطه رفاقه به، وأدرك الحاضرون أن الأمر في غاية الجد، فشددوا هجومهم، لكنهم وجدوا لكل سؤالٍ جواباً، ثم وجهت لهم منه أسئلة مضادة استشعروا وهم يجيبون عنها أن ألسنتهم كانت تلوك العبارات في غير وعي ولا تعقل.
وكانت المناقشة من أقوى المناظرات في نقض عقائد النصارى، وهي طويلة إلى حدٍ بعيد، وتعكس مدى تعمقه في تلك الفترة في دراسة العقائد النصرانية وأيضاً في دراسة الإسلام؛ لأنه تكلم -في الحقيقة- كلاماً مفصلاً جداً، وألجمهم، حتى إنهم ما استطاعوا أن يردوا عليه بكلمة واحدة! فدار الحديث عن التجسد، وعن الأقانيم الثلاثة، وموضوع البنوة، وجرأتهم على الأنبياء، ودعوى أبوّة الجسد لـ يوسف النجار، وموضوع الصلب وأصله الوثني، والقيامة، ثم الكلام عن الإسلام، وحقيقة الوحي، وحقيقة القرآن، وحيرة أهل الكتاب من إعجاز القرآن إلى غير ذلك من المسائل، وكان يسرد الكلام بأسانيد علمية في غاية القوة، فأنهوا الجلسة واتفقوا على أن يخرجوا بقرار أن الجلسة القادمة يحشدون له فيها فريقاً من أكبر علمائهم حتى يناظروه في جلسة تالية.
وقد بلغ من تأثير الطبيب عليهم أن باتت عندهم القضايا التي كانت يقيناً معلقة! فقد قالوا: هذه القضايا معلقة.
أي: لا نستطيع أن نرد عليك فيها.
واهتزت النصوص التي طالما حفظوها على شفاههم، وعادت أسئلتهم من عنده بغير معنى، وأيقنوا أن اللجنة قد عجزت، فماذا كان الجواب؟! أعلنوا في هذه الجلسة على الجميع أن عبده ابن الخواجه إبراهيم عبد الملك من أسرة كذا التابعة لكنيسة كذا قد حلّت عليه اللعنة الأبدية لهذه الكنيسة ما لم يرجع إلى رحمة أبينا يسوع المسيح مخلّصنا وراعينا، وأن الكنيسة -رحمةً به وحنواً على أبيه المسكين- قد منحته فرصة العودة إلى دين آبائه وأجداده بالحضور يوم الأحد في ذات المكان أمام عدد من الآباء لنصحه وهدايته.
ثم بدأوا يسألون أباهم وإلاههم يسوع المسيح أن يكتب له العودة إلى حضيرة رحمته، وأن لا يصير من الفرق الضالة مؤمنين على هذا الطلب بعد ذلك.
وكان بعض الحاضرين من النصارى متشوقين إلى استمرار الجلسة لشدة تعطشهم إلى سماع إجاباته، والاستفادة والاستزادة من علمه؛ لأنهم سمعوا لأول مرة فكراً جديداً ونقاشاً فريداً ودفاعاً عنيداً جعلهم في شوق إلى معرفة نتيجة محددة، خاصةً لمّا رأوا أن القساوسة قد عجزوا أمام هذا الفرد الذي تخلف عن السير في موكب آبائه وأجداده، فهاجوا وماجوا وتدافعوا وتصايحوا، لكن كبير الجلسة نصحهم بالهدوء حتى لا يشرد منهم هذا الخروف الضال! ووعدهم بأن يوم الأحد قريب، وأنه جمع للمباهلة فُحُول علماء أهل الكتاب والمفسرين وكبراء التبشيريين، فهدأت ثائرتهم، ولكن إلى حين! وجاء يوم الأحد الموعود، واحتشد الأهل والأقارب وكل من يهمه الأمر ليرى هزيمة هذا الطبيب الذي انخدع وصبأ عن دينه الحق إلى المسلمين، وهم يهددونه ويتوعدونه لئن لم ينته عما هو مقدم عليه ليمزقنه إرباً وليصيرنه عدماً، وأن هذه هي الفرصة الأخيرة له ليرجع إلى دين يسوع المسيح.
انبرى كبير القساوسة في الجلسة وهو يتطاول في كرسيه على الحاضرين بما حفظه ولقنه قديماً في الكنيسة في الكلم، فقال كلاماً شركياً نطهر أقلامنا وألسنتنا عن حكايته.
لكن الطبيب عبده ردّ عليه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم إله واحد فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، سلام على المهتدين، والحمد لله رب العالمين، فضّل المسلمين بالإيمان على جميع الأجناس، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، أُوحّد الله بموجبات توحيده، وأمجده سبحانه حق تمجيده، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، ولا أشرك بعبادته سبحانه أحداً، وأصلي وأسلم على من جاء بالهدى، خالص أصفيائه وخاتم رسله وأنبيائه، سيد ولد آدم، بعثه ربه في الأميين ليخرج البشر من الظلمات إلى النور، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
صلى الله عليه وسلم من نبي كريم على خلق عظيم، بعثه الله على فترة من الرسل موضحاً للسبل، داعياً إلى خير الملل: ملة إبراهيم: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130]، {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
فرد عليه أحد القساوسة بقوله: عجيب أمرك أيها الفتى الضال، وعجيب أمر أصحابك الذين أضلوك عن كتابك ولقنوك من الكلام ما قد سمعناه منك الآن حتى صرت أشد منهم حماساً لدينهم، وأحفظ منهم لآيات كتابهم، فأصبحنا نراك قد نسيت دينك ودين آبائك، وهو الدين الذي عليه نشأت وترعرعت، فربَّ عقلك، وأصلح فساد نفسك! فرد عليه عبده: واللهِ الفرد الصمدِ الواحدِ الأحدِ ما أضلني ولا أغواني منهم أحد، وإنما هداني إليه ربي، وساقني إليه فطرتي، واختاره لي صحيح عقلي، ودلني عليه عافية نفسي، فرأيت فيه ما لم أر في غيره من الشرائع والأديان من النور والهدى والحق والصدق، فتمسكت به ولزمته؛ لأني وجدت فيه تمام عقلي، وصلاح أمري، ومنطلق فكري، وشفاء روحي، وجواباً راجحاً لكل سؤالي، فليس هذا الدين كدينكم الذي يمجد الفقر، ويسوّغ الذل، ويورث العقل الخلل، ويحيل المرشد سفيهاً والمحسن مسيئاً؛ لأن من كان في أصل عقيدته التي نشأ عليها الإساءة إلى الخالق، والنيل منه بوصفه بغير صفاته الحسنى فأولى به أن يستحل الإساءة إلى المخلوق، فكيف أترك ما هداني الله إليه من الكمال والنعمة بعدما بدا لي من جهلكم وتحريفكم لدينكم؟! ولست مجادلكم إلا بالتي هي أحسن، فما في الإسلام حض على مخاصمتكم ومعاداتكم، بل هو أرحم عليكم وأحنى حتى من دينكم لكم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64].
فصاح أحدهم: بل نقرعك الحجة بالحجة، فإن كانت لنا الغلبة عدت إلى دين الخلاص، وإلا تركناك تتخبط فيما مسّك من جنون، فتكون من الخاسرين الذين تصيبهم لعنة الرب إلهنا يسوع! قال الطبيب الشاب: قد قبلت التحدي، ووالله إن ضلالاتكم قد سارت مسير الشمس، وبواطلها قد لاحت لعيون الجن والإنس، فوالله لا يخذلني الله أمامكم، وأنتم قوم غيّرتم فغيّر بكم، وأطعتم جهالاً من ملوككم فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتم البشر بالتعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم في ذلك كمن مدح القلم ولم يمدح الكاتب، على حين أن حركة القلم لا تكون بغير الكاتب، وهأنذا على قصور سني وقلّة مطالعتي أقبل منازلتكم، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
ودارت بينهم مناظرة لا نستطيع ذكر تفاصيلها؛ لأنها طويلة، وكانت في غاية الإمتاع، وهي من أقوى ما يمكن مدارسته في تحطيم النصرانية حجراً حجراً بحيث لا تقوم لها قائمة أبداً؛ لأنه ما ترك أي قضية إلا تكلم فيها بمنتهى القوة، وبالحجة الناصعة، مع أنهم في كل مرة كانوا يستعينون بقساوسة جدد، وهو يناظرهم بمفرده فيغلبهم! وبعدما أحرجهم جداً قال لهم: فماذا أقول لكم وقد ضللتم واهتديت، وكذبتم وصدقت، ودعوتم علي ودعوت لكم، وأهنتم محمداً صلى الله عليه وسلم وعظمتُ عيسى علي