يقول أحمد نجيب برادة: لم يكن الإسلام بعيداً عن صاحبنا وزميلنا عبده منذ بدأ دراسة الأديان قدر اجتهاده في آخر عهده بالثانوية العامة وأول عهده بدراسة الطب، ولكن دراسته للتشريح نحواً من عشرين شهراً نقلته من حال إلى حال، فقد تملكه خوف من لقاء الله وهو في تردده وجهالته بحقيقة التوحيد والبعث والثواب والعقاب.
وكان عبده يتعامل مع الجثث، ويبقى مع الميت أحياناً، ثم اجتمع إلى صاحبيه وقال بأنه آمن بالذي هما والمسلمون عليه، وبأنه سيبدأ باتخاذ ما هو مستقر من اجراءات التوثيق، وشهر إسلامه.
فزع صاحباه من هذه العجلة، وقالا له: استمع إلينا -أيها الصديق- جيداً: أنت تعلم حبنا ووفاءنا لك، وأننا سنخلص لك النصيحة حتماً، وأنت الآن بينك وبين التخرج ومدة الامتياز عامان ونصف العام، وهذا الأمر إن أنت أقدمت عليه متعجلاً ستكون له آثار خطيرة وشديدة على والديك وإخوتك وأهلك، وأقل ما سيلحقونه بك من ضرر هو ضربك وطردك من الدار ومحاربتك، وأنت بكل ذلك ستعرض مستقبلك للدمار، وهذا الدين القويم الذي رغبت فيه يأمر بالحكمة والتعقل، فالرأي عندنا أن تتمهل، وأن تستخفي بدينك حتى تتخرج وتكون لك وظيفة تكسب من ورائها رزقك.
ثم إنك في حاجة إلى مزيد من الدراسة، والله يعلم منك صدق نيتك فيما تدعيه، فأنت عند الله -إن شاء الله- من المقبولين ما دامت قد صحت نيتك، فلا تتعجل التوثيق وإشهار دينك الجديد حتى تكون العلانية مأمونة لك.
فما كان منه إلا أن رضخ لهذه النصيحة، لكنه وجد تعلقه بالدين الجديد يشتد ويقوى لحظة بعد لحظة، ويوماً بعد يوم، ولم يعد يطيق كتمان مثل هذا النور الذي يشعشع في مسامه وينير عقله وقلبه، فصار يتصرف دون الرجوع إلى صاحبيه حتى لا يشيرا عليه بما يكره من صبر وكتمان، فعكف على القرآن يتلو آياته كلما وجد من وقته فسحة وفراغاً، وحرص على أن يكون في جيبه دائماً، وبدأ يؤدي من الصلوات ما تيسر له أداؤه في خفاء خارج البيت أحياناً، وفي حجرته إذا أمن على نفسه أحياناً أخرى، ومضى عامان إلا قليلاً وهو يتعجل الأيام لتمضي ويتحقق حلمه، وبدأت مدة الامتياز وهي أقل من عام، وحل شهر رمضان بروحانياته وبركاته، فاعتزم طبيب الامتياز أمراً، وما عاد بعد الآن يستشير فيما وضح له من الحق أحداً.
كانت هناك عادة في منزل والده إبراهيم عبد الملك أفندي الذي هو الخواجه كما كانوا يسمونه، وكان الموعد مقدساً عند الأسرة، وهو موعد الغداء يوم الأحد، وهو اليوم الوحيد الذي يتفرغ فيه الأب للاجتماع بجميع أولاده، فتخلف عبده عن حضور الغداء يوم الأحد؛ لأنه قد بدأ شهر رمضان على غير ما جرت به عادته وعادة الأسرة كلها، وسأل عنه أبوه ظهراً وعصراً ومساءً، ولكن عبده لم يحضر إلى داره إلا في ساعة متأخرة من الليل، فقيل له: إن الأسرة كلها قلقة لهذا التخلف، وإن الظنون ذهبت بهم كل مذهب.
وكان رده: إن الأعمال في قسم الاستقبال كانت كثيرة على غير المألوف أو المتوقع لها، وقد اعتذر عن الحضور للعمل زميلان له، فقضى اليوم كله في مواجهة الحالات العاجلة التي كان ينبغي لهما استقبالهما لو حضرا.
وجاء الأحد الذي يليه وتوقف الخواجه إبراهيم عن أن يذوق طعاماً أو شراباً حتى يصل ابنه الطبيب، وطال انتظاره له ساعات وساعات حتى غلبه النوم، فقام إلى فراشه مكتئباً وقد داخله هم لا يعرف من أين أتاه، أو هو يعرف ولكنه يداري نفسه هروباً من مواجهته، حتى فزع بآماله إلى الكذب، وعند منتصف الليل جاء الطبيب إلى الدار وعليه من آثار الاجهاد ما يظنه في نفسه شفيعاً، واتجه إلى حجرته بخطوات متعبة، وتبعته أمه وهي تقول له: أين كنت اليوم بطوله يا بني؟! إن أباك لم يذق طعاماً ولا شراباً اليوم؛ لأنه يكره أن يكون مكانك خالياً من غداء الأحد، وهذه هي المرة الثانية التي يتكرر فيها ذلك على التوالي، فهلا ترفقت بنفسك وبأبيك وبنا جميعاً فيما تقبله من واجبات بسبب تخلف زملائك عن نوبات عملهم، بل هلا رحمت أباك وترفقت به بعد أن تقدمت به السن؟ وترفق عبده بأمه وهو يجيبها إلى ما سألته، لكنها عادت تلح وتسأل وهو مرهق مجهد، فقال لها: يا أماه! وحشد لها من صنوف المعاذير ما يظنها اقتنعت به، وهما لا يزالان في حوار إذا بمساعده في المستشفى يطرق الباب ويطلب من الطبيب الحضور إلى المستشفى على عجل لوقوع حادث كبير تضاعفت بسببه الحالات، لذا تعين استدعاء كل الأطباء، ولكن عبده لم يكن قد مضى على حضوره لداره ساعة وبضع الساعة قضاها في حوار مرير مع أمه، ولم ينل قسطه المقرر من الراحة أو حتى بعضه، ولكنه طلب من أمه أن تعينه على استبدال ملابسه ليمضي فوراً مع مساعده الذي لا يزال واقفاً بالباب.
ثم انطلق الطبيب مع مساعده، ولفهما الليل ولف المكان سكون مبهم من ذلك النوع الذي ينبئ بقرب هبوب عاصفة قوية، وفي الليلة الثانية جاء من المستشفى من يستدعي الطبيب عبده؛ لأن الطبيب المناوب قد اعتذر فجأة، وبعدها تكرر الطلب في جوف الليل من جديد مرة بعد مرة، وتنوعت الأعذار حتى جاء يوم الأحد الثالث وأبوه يتابع ولا يتكلم، فقد غشيه من الهم غاشية لا قبل له بها، وعلى مائدة الغداء جلس ينتظر ولده ساعات، وبه من الهم والكرب والهواجس والشكوك ما يهد كيانه ويزلزل وجدانه، وتحامل الأب على نفسه وهو ينهض بعيداً عن المائدة فاختل -أي: كاد يسقط- لولا أن أعانه بنوه، وأمرهم بأن يجلسوه على مقعد مقابل لمدخل الدار، وبقيت عينه شاخصة لكل قادم، لكن ساعات طويلة مضت وهو على ما هو عليه، حتى قارب الليل أن ينتصف وغرقت الدار في سكون حزين مبهم.
وأقبل الطبيب الذي تخلف عن غداء الأحد ثلاث مرات متواليات فألفى أباه لا يزال جالساً لدى مدخل الدار، فتمالك نفسه وحياه، ولكنه لم يرد التحية، وبادره قائلاً: أين كنت طوال اليوم -وهو يوم الأحد-؟ قال الطبيب متلطفاً: بالمستشفى كعادتي يا أبي، وساد بينهما الصمت فترة حتى تمالك الرجل نفسه، وقال في هدوء مصطنع: إن أمرك يا بني لم يعد خافياً علي، خاصة بعدما تكرر غيابك كل يوم أحد، ولقد اجتمعت عندنا دلالات خطيرة عن سلوكك في العامين الأخيرين، وهي دلالات أيقظت في نفسي ظنوناً تكاد تقتلني حسرة على ما آل إليه أمرك، وما صرت عليه من حال، فهلا حدثتني بحقيقة الخبر وصدقتني القول؛ فإنني لأجد الحقيقة -مهما بلغ سوءها- أرحم بي مما أنا فيه.
قال الطبيب الشاب: إني محدثك بالصدق يا أبي، فما هي هذه الدلالات والظنون التي تشير إليها؟ قال الوالد: كتاب المسلمين، وجده الكواء في جيبك من نحو عامين، وقد كتمت الأمر ظناً مني أنك ستعود إلى صوابك ورشدك فتنتهي عما أنت فيه، وها هو الكتاب فانظر إليه جيداً، أليس هذا الكتاب يخصك؟ أجب أيها الضال؟ سكت الطبيب لحظة، ثم قال: بلى يا أبي، الكتاب يخصني فعلاً.
فثارت ثائرة الأب لجرأته، فعاد يقول: وأخوك سليم رآك من ثقب الباب وأنت تقوم وتقعد على غير هيئة الصلاة عندنا، ولقد حدّث أمه بما رأى فكذبته ونهرته، لكنها راقبتك بنفسها، وقد ثبت عندها صدق مقالة أخيك، فهل تفعل هذا حقاً حين تخلو إلى نفسك في حجرتك بداري؟ سكت الطبيب وقد بدا له أن الأمر جد ما بعده جد، وعاد الوالد يقول: لقد أصابني من ذلك ما لا قبل لبشر باحتماله، ولكني كنت أؤثر الصمت، وأنا أحمل ذلك كله في حبك للبحث والمعرفة -أي أن الأب كان يظن أن ما يفعله ولده هو مجرد حب المعرفة والاطلاع- حتى كان الأحد الذي مضى منذ ثلاثة أسابيع، ثم الذي بعده، ثم هذا اليوم الأسود حين اتصل غيابك عنا اليوم كله، وتكرر خروجك في الليل، لقد ظننت أن هذا التصرف الغريب من جانبك له صلة بهذا الشهر الذي يصومه المسلمون الآن، والمسمى بشهر رمضان، فهل أنت تفعل فعلهم فيه أيضاً أم هي المصادفات؟! وفوجئ طبيب الامتياز الغارق في البحث والتنقيب العلمي والتدريج التطبيقي العملي بهذا الموقف المفاجيء من أبيه، وما جره عليه اتخاذه القرارات بمعرفته منفرداً، وإصراره على ممارسة العبادات قبل أن يستقل بحياته كما نصحه صاحباه بعدم التعجل، لكنه رأى -وقد انكشف الأمر- أنه قد آن له هو الآخر أن يستريح، وأن يفرغ من حالة القلق التي يعيشها منذ عامين أو أكثر، وأن ينفض عن كاهله هذا العبء الذي أرهقه، فأقبل على والده مشفقاً عليه وعلى نفسه وهو يقول له: لقد وعدتك يا أبي أن أكون صادقاً، وأنت تعلم أني ما كنت لأخفي عليك أمراً مصيره إلى العلانية حتماً، وإنما أردت أن أؤخر حديثي إليك في هذا الشأن حتى تخف واجباتي بالمستشفى.
ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول: ولكن ما دمت الآن تستعجل معرفة حقيقة الأمر.
فاعلم يا أبي -هداني الله وهداك- أني بالبحث الدقيق الواعي قد وجدت أن الدين الإسلامي هو الحق، وقد اقتنعت بما فيه، وأنه قد بعث نبي كريم بالقرآن كما بعث من قبله من الأنبياء بالكتب.
قاطعه الوالد مستفهماً: ودينك الذي عليه آباؤك وأجدادك كيف وجدته، وفي أي مراتب الضلال صنفته أيها المجنون العاق؟! لابد من أنك قد فقدت عقلك -أيضاً- حين فقدت دينك! قال الطبيب الشاب: أي ضير -يا أبي- يمس الأديان السابقة إذا جاء دين جديد يصحح ويتمم الذي جاءت به الرسل من قبل؟ وعاد أبوه يسأله: هل تعرف ما تتكلم عنه -أيها الشيطان- أم أن في الأمر سراً نجهله؟ أم لعلك على صلة بفتاة مسلمة اشترطت عليك عدم اقترانك بها إلا أن تدخل في دين الإسلام؟! إذا كان الأمر كما أقول يا بني فترفق بي، ولدينا من جميلات أسر النصارى ما يسرك، وكلهن طوع البنان، إن ما أحدثك فيه أمر سهل، وطلبك فيه مجاب، أما أن تدعي على صغر سنك أنك قد تعلمت ووازنت بين الأديان وهديت إلى الحق منها فهذا جهل فاضح بتعاليم دينك.
إن المسلمين -يا بني- لا يعرفون الأقانيم، ولا يؤمنون بأن عيسى هو الرب المخلّص أبانا يسوع الذي في السماء، وهم لا يعترفون -أيضاً- بالمسيح الحي، وهم وهم وهم، واستمر الوالد يعظ ابنه وهو يظن أنه يجهل حقائق دينه، وصابر الطبيب برهة حتى أتم والده حديثه، وتقدم منه خطوة وقد استجمع ما تفرق من نفس