المسألة الثانية: اضطراره إلى أضيق الطريق، اختلف العلماء في معنى اضطرار الكافر إلى أضيق الطريق.
فمن قائل: إن هذا الاضطرار على ظاهره بلا تأويل، فإذا كان هناك طريق ضيق فلا تفعل مع الكافر ما تفعله مع المسلم، المسلم تتواضع له وتؤثره على نفسك، وتقول له: تفضل أنت؛ لأن الطريق ضيق، أما مع الكافر فينبغي ألا تؤثره على نفسك، بل تضطره أن يمشي في جوانب الطريق، وتبقى أنت في الوسط؛ إظهاراً لعزة الإسلام.
وبعض العلماء قالوا: إن هذه كناية عن إظهار عزة الإسلام وذلة الكفر، وأن المسلم لا يظهر أمام الكافر بمظهر المستخذي الذليل، ولكن بالمظهر اللائق به بصفته مسلماً؛ لأنه هو الذي يمثل الحق على هذه الأرض، فإذا التقى مسلم وغيره في طريق فليكن المسلم عزيزاً رافع الرأس، لا يظهر الذل والخنوع والضعف والتماوت ويطأطئ رأسه وينحني، فهذا لا يليق، ومعلوم ما فعله الصحابة لما أتوا في عمرة القضية أو عمرة القضاء بعدما منعوا العمرة في عام الحديبية وأتوا من قابل ليعتمروا، قال المشركون: (أتاكم قوم قد أنهكتهم حمى يثرب) فجلس المشركون في الجهة الشامية من الكعبة، والذي يكون في الجهة الشامية لا يرى الذي يأتي من جهة الركنين اليمانيين: الحجر الأسود والركن اليماني، فلذلك حرص الصحابة على ألا يظهروا الضعف أمام الكفار، فلابد للمسلم أن يغيظ الكافر بإظهار القوة والجلد حتى لا يشمت به، فلذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابة أن يرملوا في طواف القدوم؛ ليظهروا الجلد.
والرمل: هو القفز القريب مع تقارب الخطا، القفز الذي فيه قوة وصحة وعافية، مع أنهم بالفعل كانوا مرضى، وكانوا منهكين من الطواف، فكانوا إذا أتوا إلى الجهة اليمانية حيث لا يراهم المشركون هدءوا الخطوات واستعادوا أنفاسهم، فإذا عادوا للظهور من جديد في الثلاث الجهات الأخرى أظهروا الجلد ورملوا، وهذا الحكم ما زال باقياً إلى اليوم؛ تذكيراً للمسلمين بنعمة الله عليهم، فنحن عندما نرمل حول الكعبة تذكرنا ما كان من كيد المشركين، وتذكرنا هذه القصة واستحضرنا نعمة الله علينا دوماً بتمكين الإسلام وإظهاره.
الشاهد من هذا كله: أن المسلم يحرص على أن يكون عزيزاً رافع الرأس، لا يطأطئ ولا يذل للكافرين، ويظهر بالمظهر الذي يليق به بصفته مسلماً، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فإذا التقى المسلم وغيره في طريق فليكن المسلم رافعاً رأسه عزيزاً، يأخذ من الطريق أوسعه، ولا يستذل للكافر فيفسح له الطريق، ويبقى هو لاجئاً إلى أضيقه خاضعاً مستجدياً.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث الذي هو: (إذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه): معناه: لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً.
وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى الذي هو قوله: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، يقول القرطبي: وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب، فالتضييق ينبغي ألا يلحقهم بأذى، كما قال الدكتور الطريقي، وفعل المسلم هذا ليس منطلقه الكبر والزهو، وإنما هو عزة الإسلام والحق، فمن أجل هذا لا يتنافى هذا الحديث مع ما ذكرناه من مشروعية التأدب معهم والرفق بهم، كما أن هناك علماء يخالفون الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تأويله لهذا الحديث قال المناوي في فيض القدير: يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام)؛ لأن السلام إعزاز وإكرام، ولا يجوز إعزازهم ولا إكرامهم، بل اللائق بهم الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم؛ تقذيراً لهم وتحقيراً لفعلهم، فيحرم ابتداؤهم به على الأصح عند الشافعية، وأوجبوا الرد عليهم بعليكم فقط، ولا يعارضه آية: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وآية: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89]؛ لأن السلام هنا سلام متاركة ومنابذة لا سلام تحية وأمان، كما قال الله تعالى في ذلك: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] لكن هناك بعض الناس يأتي إلى قوله عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] ويطبق هذه الآية بطريقة غير صحيحة غير سوية، فتراه إذا أراد أن يشتم خصمه ويصفه بأنه جاهل يستحضر هذه الآية: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، فهذه أذية وليست متاركة، فهو يستخدم الآية في غير ما أنزلت من أجله، الآية تمدح المسلم العزيز القوي الذي مع قوته وقدرته يعفو ويصفح ويلين ويرفق، حتى مع من يؤذيه فهو يحلم، وليس معناها أنك إذا أردت أن تشتمه تأتي بالآية، فأنت هكذا عملت عكس معنى الآية، فالآية تنصحك بالرفق واللين وبالسلام والمتاركة والمنابذة لا لشتمه، فهو استعمال للآية في غير ما أنزلت من أجله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] يعني: تلطفوا في الجواب.
وعليه فالآية أتت لترسيخ خلق معين في المسلم، فلا ينبغي أن تستعملها في عكس ما أنزلت من أجله.
قوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ} [الزخرف:89] أي: قل لهم قولاً طيباً.
قوله: (سلام) فهو سلام متاركة ومنابذة لا سلام تحية وأمان كما يكون مع المسلم.
يقول المناوي: (إذا لقيتم أحدهم في طريق) فيه زحمة (فاضطروه إلى أضيقه)، بحيث لا يقع في وهدة.
أي: بشرط أنك تضطره إلى أضيقه لا أنك تلجئه إلى هاوية سحيقة، وتقول: أنا أضطره إلى أضيق الطريق بحيث يقع بسيارته ويهلك، أو إن كان هناك حفرة مثلاً أو وهدة في طريق إذا اضطريته إليها ستؤذيه، فهذا أيضاً لا داعي له.
يقول: بحيث لا يقع في وهدة، ولا يصدمه نحو جدار.
وللأسف بعض الناس من المسلمين الآن في قيادة السيارات يفعلون ذلك مع المسلمين، بحيث يحاول أن يضطرك إلى الخروج عن الطريق والاصطدام بسيارة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول: أي: لا تتركوا له صدر الطريق إكراماً واحتراماً، فهذه الجملة مناسبة للأولى في المعنى والعطف، وليس معناه كما قال القرطبي: إنا لو لقيناهم في طريق واحد نلجئهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم؛ لأنه إيذاء بلا سبب، وقد نهينا عن إيذائهم، ونبه بهذا على ضيق مسلك الكفر وأنه يلجئ إلى النار.
والحكمة من هذا التضييق إشارة إلى أن الكفر دائماً عاقبته الضيق، فكما أن الكفر تسبب في أن هذا الشخص يضطر إلى أضيق الطريق، كذلك إن مات على الكفر فإنه يضيق عليه فيحشر في جهنم: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.