الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لاسيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرف.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فعن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر؛ لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمي مغلسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله! ما التفت إلي واحد منهما؛ مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم، والله! قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه؟ فأجاب: عداوته والله! ما بقي).
كان حيي بن أخطب وأبو ياسر كلاهما من كبار علماء وزعماء اليهود في المدينة، وحينما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ذهبا إليه مغلسين، والغلس هو: الوقت الذي بعد الفجر مباشرة حين يختلط الضوء بظلمة الليل، فذهبا في هذا الوقت المبكر، ومكثا يراقبان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينى في غاية الإرهاق، قالت صفية رضي الله عنها: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله! ما التفت إلي واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ يعني: أهو النبي المبشر به في التوراة والموصوف في التوراة بالصفات والخصائص المعروفة؟ قال: نعم، والله! يعني: إنه لهو النبي الذي بشرت به التوراة، قال عمي: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه؟ أي: ماذا عن موقفك؟ قال: عداوته -والله- ما بقيت! وهكذا هم اليهود.
والشاهد في هذا الحديث هو: كلمة (أهو هو؟) وإن كان علاقته بموضوعنا ليست علاقة مباشرة، لكن نحن نتخذه منطلقاً.
فقوله: أهو هو؟ إشارة إلى هوية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الموصوف في التوراة.
وحديثنا هو عن الهوُية، والهوُية هي: حقيقة الشيء أو حقيقة الشخص التي تميزه عن غيره؛ فهي ماهيته وما يوصف وما يعرف به، كما دل عليه هذا الحديث، فالهوية هي المفهوم الذي يكون عليه الفرد من فكره وسلوكه اللذين يصدران عنه، من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي، وبهذه الهوية يتميز الفرد، ويكون له طابعه الخاص.
وهي -بعبارة أخرى-: تعريف الإنسان نفسه بفكر وثقافة وأسلوب حياة.
والإنسان يحمل ما نسميها ببطاقة الهوية أو البطاقة الشخصية التي فيها: اسم هذا الشخص، وأنه -مثلاً- مسلم، يعمل كذا، وسنه كذا، ومولود في كذا، ويعيش في بلدة كذا، وهكذا، وإن كانت البطاقة الشخصية تحتوي فقط على بعض البيانات المحددة، أما مجال الهوية فمجالها أوسع؛ فهي تعبر عن كل قيم الإنسان، وكل ما فيه من صفات عقلية وجسمية وخلقية ونفسية.
فمثلاً: حينما يقول الإنسان: أنا مسلم.
فهذا انتماء لدائرة كبيرة جداً من دوائر الهوية ديانتها الإسلام، فإذا قال: أنا مسلم تعرف أنه مسلم، وإذا زاد وقال: أنا منهجي الإسلام الذي أحيا به فقد وضح أكثر، فإذا زاد أكثر حدد الدائرة بصورة أدق وأوضح، فإذا قال: أنا مؤمن ملتزم بالإسلام تميز أكثر عمن ينتسب إليه بالاسم، وإذا زاد وأوضح فقال: أنا مسلم سلفي عرفنا بمجرد كلمة (سلفي) أنه ليس خارجياً ولا معتزلياً ولا مبتدعاً، وأنه يعتقد في القضية الفلانية كذا وفي القضية الفلانية كذا، وأن هذه الصفة عبارة عن لافتة تعنون لجملة من الصفات الثابتة التي لا تتغير فيما بين الذين ينتمون إلى هذه الهوية.
فالفرد كما أن له هوية كذلك المجتمع والأمة لها هوية مستقلة تتميز بها عن غيرها، وإلا تشابهت الأمم كما يتشابه السمك في الماء.
وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع كلما تعمق إحساسه بالانتماء لهذا المجتمع واعتزازه به، أما إذا تصادمتا فهناك تكون أزمة الهوية وأزمة الاغتراب، وإلى معناها أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء) وفي بعض الروايات (قيل: من الغرباء؟ فقال: أناس قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).