الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله.
مر أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بقوم في مسجد الكوفة يسبحون ويذكرون الله وبين أيديهم أكواماً من الحصى، وعلى رأس الحلقة رجل يقول: سبحوا مائة! فيسبحون مائة، هللوا مائة! فيهللون مائة، احمدوا مائة! فيحمدون مائة، فذهب إلى عبد الله بن مسعود وكان من فقهاء الصحابة، فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد شيئاً أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيراً، قال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت في المسجد أقواماً حلقاً، وعلى كل حلقة رجل يقول: سبحوا مائة! هللوا مائة! كبروا مائة! فيكبرون ويعدون بالحصى، فقال: هلا قلت لهم: عدوا خطاياكم، وأنا ضامن ألا يضيع الله من حسناتكم شيئاً، انطلق بنا إليهم، فلما وقف على رءوسهم قال: ماذا تفعلون؟! قال: نسبح الله ونذكر الله، قال: عدوا خطاياكم وأنا ضامن ألا يضيع الله من حسناتكم شيئاً، يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم في الحق! هذه ثياب رسول الله لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده لأنتم على ملة هي أهدى من ملة رسول الله؟ أو أنكم مفتتحو باب ضلالة.
أي قال لهم: إن العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال قريباً، ونحن صحابته، وثيابه موجودة، وآنيته موجودة، ولم يطل العهد بيننا وبينه، وهذا الذي تفعلونه لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله، فما كان يجلس أبو بكر وعمر والصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقول لهم: عدوا فيعدون، بل كانوا يسبحون، كل واحد يعد لنفسه، سبح الله ثلاثاً وثلاثين، واحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وقل تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وللإنسان أن يسبح وحده بدون أن يعد، فقال لهم ابن مسعود: أنتم بين أمرين: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة رسول الله، وهذا احتمال، وهم ليسوا على ملة أهدى من ملة رسول الله، إذاً الواقع هو الاحتمال الثاني: أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: يا أبا عبد الرحمن! والله ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لا يدركه.
ولأجل هذه الكلمة الأخيرة سقت هذه القصة، فبعض الناس يريدون الخير ولكن لا يبلغون الخير ولا يسلكون سبله، فقد يقصد الخير وينويه ولكن لتحقيق الخير لا يفعل الخير، لأنه لا يأخذ الأمر من بابه الذي شرعه الله سبحانه وتعالى، وهذا سيؤدي إلى فساد عمله بدل أن يقبل؛ لأنه لم يترسم المنهج الإسلامي ترسماً جيداً.
وأبواب الخير واسعة، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: هذه الشريعة كأنها شرائع لسعتها؛ ولذلك فتحت أبواب الخير، وهي أبواب واسعة في العبادات وفي الصلاة وفي الصدقة وفي الصيام وفي الإكثار من الحج وفي الإكثار من العمرة وفي الإكثار من الذكر وفي الإكثار من الجهاد في سبيل الله، وكل إنسان يأخذ الخير الذي يتناسب معه، فمنهم من يحب الجهاد، ومنهم صاحب المال الذي ينفق ولا تنقطع نفقته، ومنهم الذي تحبب له الصلاة، ومنهم الذي يحبب له قراءة القرآن، ومنهم الذي يحبب له الذكر، أبواب الخير كثيرة ولكن في بعض الأحيان تضيق السبل على الناس فيبتدعون في الدين، أو يركبون المركب الصعب.
العلم بابه واسع وطرقه معروفة، وبعض الناس يتمحلون في العلم، فلا يذهب ليفهم العلم من أبوابه التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن يأخذ بصعاب المسائل.
حُدَّث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رجل يسمى صبيغ وهو بدوي، وكان لا يسأل إلا عن المسائل الكبيرة والمشكلات، فقال: اللهم مكني من هذا الرجل، فبينما هو جالس بباب داره إذا بالرجل يسأل عمر، فقال عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ قال: انتظر في الباب، فدخل وجاء بعراجين النخل وضربه على رأسه حتى أوجعه وأدماه، فقال يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد أن تذهب ما في رأسي فقد ذهب والله وإن كنت تريد أن تقتلني فأنت وذاك، فنفاه إلى الكوفة أو البصرة، وأمر الناس ألا يجالسوه وألا يتحدثوا معه، حتى اشتد الأمر عليه وأرسل والي عمر أن قد صلح حاله، فأذن للناس في أن يخاطبوه ويجالسوه، بعد أن أدبه لسلوكه مسلكاً صعباً يضر بالمسلمين ويشتت جهودهم.
كذلك الذي يتخذ سبيل الفتنة بين الناس، فهذا مسلك صعب يفرق المسلمين، وسبل الخير كثيرة، وتنقضي أعمار الناس وتنقضي الحياة وأبواب الخير لم تنفد، وتنتهي حياة الناس والشر واضح وبين، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن الطواغيت والظلمة والفجرة، وأنواع الشرك، وأنواع الذنوب والمعاصي، وتنتهي حياة الإنسان وهو لم يستطع أن يغير فيها إلا القليل، ثم يأتي المسلمون يسلكون سبلاً تبتعد بهم عن المنهج السليم! لذا فينبغي للمسلمين أن يرفقوا بأنفسهم، وأن يتذكروا وقوفهم بين يدي ربهم سبحانه وتعالى، فكلنا ملاق الله سبحانه وتعالى، والسعيد هو من جاء وهو طاهر ونظيف لم يخض في دماء المسلمين، ولم يخض في أعراض المسلمين، ولم ينتهك حرمات المسلمين، ولم يطعن ولم يغتب ولم ينم، وجاء وقد جاهد وأصلح بقدر وسعه وأنفق بقدر وسعه، وطرق أبواب الخير وأغلق أبواب الشر، فذلك الذي يرجى أن يكون من المحسنين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا وألهمنا رشدنا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب سميع.