إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيما يريه عن ربه تبارك وتعالى: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
هذا حديث عظيم يخاطب فيه رب العزة تبارك وتعالى عباده ويعلمهم ويفقههم، ويخبرهم أنه حرم الظلم على نفسه، فلا يظلم رب العزة أحداً؛ ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ومن أجل ذلك تقوم القيامة حتى يأخذ الظالمون جزاءهم، ويأخذ العادلون المؤمنون الأتقياء جزاءهم.
لقد جعل الله عليك ملائكة تسجل صالح أعمالك وطالحها، ويجعل ذلك في كتاب، ثم يوم القيامة تنصب الموازين القسط فتوزن الأعمال، ويوزن البشر، فمن رجحت موازينه فهو من أهل الخير، من خفت موازينه فأمه هواية {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].
لقد حرم الله تبارك وتعالى الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً؛ فحرم أن يظلم الإنسان أخاه، وذلك كأن يقع في عرضه، أو يتكلم في أمره بغير حق، أو يجلد ظهره، أو يأخذ ماله، أو يعتدي على حرماته أو يغتابه كل ذلك حرام، والظلم كما في الحديث الصحيح: (ظلمات يوم القيامة) وفي الحديث أيضاً: (ومن كان لأخيه عنده مظلمة فليتحلله منها قبل أن يأتي يوم لا دينار ولا درهم إنما هي الحسنات والسيئات)، فالذي ظلمته يأخذ من حسناتك حتى إذا فنيت الحسنات جيء بسيئاتهم فوضع فوق ظهرك.
(يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، لا يفرح الظالمون، ولا يظنوا أنهم قد فازوا عندما داسوا على رقاب الناس وأخذوا أموالهم فبجرة قلم منهم تسفك الدماء وتنتهك الحرمات، وتخرب البيوت، ويظنون أنهم سادة الدنيا، فماذا فعل فرعون؟ ماذا فعل هامان؟ ماذا فعل نمرود؟ ذهبوا، وبقيت ذكراهم الخبيثة، وبقيت أعمالهم النتنة تحيط بهم، وعند الله تجتمع الخصوم، يجتمع الناس فيحشر المتكبرون المتجبرون أذلاء فقراء، يتمنون أنهم لم يظلموا، بل لم يخلقوا.
(إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، أي: لا يظلم بعضكم بعضاً، وفي الحديث: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، ويقول الله لها: (لأنصرنك ولو بعد حين).