مكانة أمة الإسلام

الحمد لله قيوم السماوات والأرض، بيده مقاليد الحكم، له الأمر كله والخلق كله، يصرف الأمور ويقدرها وفق علمه وحكمته، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير إنه على كل شيء قدير.

قوله القول، وحكمه الحكم، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا معدل لأمره.

وأصلي وأسلم على عبده المصطفى، ورسوله المجتبى، خيرته من خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله، أقام الله به الشريعة الغراء، وأنار به القلوب العمياء، ومحا به دولة الباطل، وطمس به معالم الشرك، وأصلي وأسلم على آله وصحبه الذين جعلوه لهم قدوة وأسوة، واتبعوا النور الذي جاء به، فكانوا على المحجة البيضاء، يقرون بالحق ويدعون إليه، ويجاهدون في سبيل إعلائه حتى ظهر أمر الله، وأصبح الدين كله لله، وعلى التابعين ومن اتبع سبيلهم إلى يوم الدين.

إخواني! لن أفيض في هذا الموضوع الذي سأتحدث إليكم فيه عن واقع الأمة الذي تعيشونه وتشاهدونه؛ لأن الواقع الذي نعيشه كلكم يراه، فمنذ أن كنا في زمن الطفولة والصبا فتحنا أعيننا وجنود الإنجليز تدك ديارنا، واليهود يتوافدون على بلادنا، وما كدنا نبلغ السابعة أو الثامنة من عمرنا حتى سقط جزء من فلسطين، وكنا نرى في صبانا جيوش الإنجليز وهي تطارد آباءنا وإخواننا، وتعتدي على حرماتنا وأهلنا ونسائنا، وسقط جزء من فلسطين ونحن لم نبلغ زمن الشباب بعد، ولكن الجزء الباقي من فلسطين سقط ونحن ندرك أبعاد القضية، وقبل ذلك احتلت ديار المسلمين من قبل الصليبيين في هذا العصر، فاحتلت مصر وسوريا ولبنان والجزائر وتونس، بل احتلت كل ديار الإسلام إلا القليل، ففي زماننا انقسمت دولة إسلامية كبرى إلى شطرين هي الباكستان، وبنغلادش، وفي زماننا ينقل لنا التلفاز في كل يوم مآسي من بلاد المسلمين في الهند وأرتيريا وفي الفلبين، وفي زماننا اخترقت جيوش اليهود لبنان ووصلت إلى عاصمته بيروت، ودمرت أحياء بأكملها، وتنقل لنا أخبار الدنيا بالصوت والصورة الجندي اليهودي وهو يجرجر امرأة مسلمة، في حين لو حدث هذا في يوم من الأيام في عهد العز لقامت الدنيا وما قعدت، فلا أريد أن أفيض في هذا؛ لأن هذا أمر تشاهدونه وتعلمونه، ومن الخطأ الإفاضة فيه.

فقد كان لهذه الأمة مكانة عالية راقية، ثم ضاعت هذه المكانة، والمسلمون اليوم يبحثون من جديد ليستعيدوا العزة المفقودة، ويستعيدوا المكانة التي كانت تعيشها الأمة في ماضيها، أما مكانة هذه الأمة فقد نص الله تبارك وتعالى عليها في قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، والوسط هو مركز الاتزان والاعتدال، يقول بعض المفسرين: الوسط: عدل بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض، وقد تعارف الناس على ذم الذي يمسك أحد الطرفين ولا يلزم موضع الاعتدال، فتراهم يقولون: فلان متطرف في أمره، في مقام الذم، وفلان معتدل في مقام المدح، ومع ذلك فإن أكثر البشر في عقائدهم وأفكارهم وأعمالهم يتطرفون ولا يلزمون مركز الاعتدال، فكانت هذه الأمة وسطاً في كل شيء، ودائماً تجد الخير والفضل في الوسط، وفي مصطلح العرب ومصطلح القرآن أن الوسط هو الأفضل والأحسن لأمرين: الأمر الأول: أن الأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد، فدائماً الفساد يبدأ من الطرف ولا يبدأ من الوسط، كما قال الشاعر الجاهلي: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفاً فهو يصف الشيء الذي يتحدث عنه بأنه كان وسطاً لا يصل إليه الفساد، ثم دب إليها الفساد حتى أصبحت طرفاً من الأطراف.

والأمر الثاني: ما أشرت إليه من أن الوسط مركز الاعتدال والاتزان فقريش أوسط العرب نسباً، والرسول صلى الله عليه وسلم وسط في قومه، وفي محكم التنزيل: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، أي: قال خيرهم، وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، وقد ثبت في الحديث أنها صلاة العصر، فهي خير الصلوات؛ لأنه سبحانه خصها بمزيد من الحث على أدائها.

وقد صرح الله بهذه الأفضلية في آية أخرى بوضوح فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].

إذاً: فبشهادة الله تبارك وتعالى تكون هذه الأمة خير الأمم وأفضلها على الإطلاق؛ لأنها وسط، والوسط هو الأفضل، فالوسط عند الله يُجَتَبى ويُختار.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015