إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
موضوع حديثنا في هذه الليلة هو ذكر بعض التنبيهات الهامة في بعض قضايا العقيدة.
فالجانب الاعتقادي هو جزء من الجانب الإيماني، والاعتقاد جزء من الإيمان، وهو المعرفة القلبية التي تتعلق بالقضايا الأصول من الإيمان، والقضايا الأصول من الإيمان هي: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، فمنها ما يتخذ جانباً عملياً، ومنها ما يتخذ جانباً اعتقادياً.
والجانب الاعتقادي أمر هام بالنسبة للإيمان، ولكن ليس هو الإيمان كله، فليس كل الإيمان اعتقاداً، أو بمعنى آخر: إن الذي يأتي بالعقيدة الصحيحة وحدها لا تغني عنه عند الله سبحانه وتعالى، ولا تكفيه العقيدة السليمة أو العقيدة الصحيحة وحدها عند الله تعالى، فالاعتقاد هو معرفة علم، لذلك نسميه بالمعرفة والإثبات، فنثبت لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وننفي عن الله ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فنثبت له أسماءه وصفاته وأفعاله، وندلل على ربوبيته سبحانه وتعالى وقدرته.
وهذا الجانب الاعتقادي أو العلمي لا ينجي عند الله سبحانه وتعالى وحده؛ بل لا بد معه من أمور عملية، ومن هذه الأمور العملية قصد القلب وإقراره، أي: أن يقر القلب ويرضى بالله سبحانه وتعالى رباً، فيقصده سبحانه وتعالى بحبه ورجائه وخوفه ورغبته ورهبته، فهذه أمور قلبية ولكنها ليست أموراً اعتقادية، فحب الله سبحانه وتعالى ليس أمراً اعتقادياً وإنما هو أمر عملي قلبي، ولذلك فالمعرفة وحدها أحياناً لا تساوي شيئاً عند الله سبحانه وتعالى، فإبليس مثلاً كان يقر ويعلم علماً يقينياً أن الله سبحانه وتعالى هو المعبود، ويعرفه بأسمائه وصفاته، وكثير من المشركين الذين أرسل إليهم الرسل كانوا يقرون ويعترفون بقلوبهم بالله سبحانه وتعالى، وبصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لا يغنيهم عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، فقد وصل الأمر عندهم إلى درجة العقيدة اليقينية بأن هذه من عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك لم ينفعهم ذلك؛ لعدم وجود التصديق والإقرار، وهو الذي يقول فيه الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رضي الله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً)، فالرضا القلبي غير متوفر.
ثم هناك مع الرضا القلبي أمور عملية قلبية، ومن جملتها حب الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر مكمل وأساسي، والخوف منه، والرهبة منه، والرغبة إليه، ورجاؤه سبحانه وتعالى، ثم تأتي بعد ذلك الأمور العملية سواءً كانت قولية أو عملية.
والإقرار باللسان هو الإقرار بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم العمل، وكل ذلك أيضاً لا بد منه حتى يكتمل الأمر الذي ينجي عند الله، ولذا لم ترد هذه البحوث في القرآن الكريم أو في السنة النبوية باسم العقيدة، أي: لم يأتِ أن الأمور التي تنجي عند الله هي الأمور الاعتقادية كذا وكذا وكذا وكذا، بل إن كل ما جاءنا في كتاب الله وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإيمان، ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى أصول الإيمان وفصّلها.
فهذه قضية أولى، وهي أن الأمور الاعتقادية جزء من الإيمان، وأنها لا تنفع ولا تغني وحدها عند الله سبحانه وتعالى، فلا بد معها من أمور أخرى: أمور قلبية، وأمور قولية، وأمور عملية.
وهنا أيضاً أمر أساسي ننبه عليه، وهو أنه في كثير من الأحيان يصبح الاعتقاد عند الناس -إذا كان مجرد اعتراف ومعرفة أمراً باهتاً بارداً لا يؤثر في حياة الإنسان، ولا يؤثر في سلوكه، وقد يكثر بعضهم من البحث والدراسة والتنقيب ليتعرف على أمور العقيدة، ثم يبقى الأمر عنده محصوراً في جانب المعرفة والعلم فقط، ولا يتعداه إلى أطوار أخرى، فلا يتعداه إلى جانب الإقرار والتطبيق، ولا إلى جانب الأمور العملية: القلبية والقولية والجسدية، فيعيش في دائرة باهتة ويظن أنه قد وصل إلى القمة وهو لا يزال في أول الطريق.
فالجانب العلمي جانب مهم وجانب خطير، لكن لا بد أنه تتبعه خطوات على الطريق حتى تكتمل الصورة التي يريدها الإسلام من المسلم الحق، فالجوانب العلمية وحدها لا تغني، فلابد أيضاً أن تتبعها أمور أخرى مهمة حتى يكون المرء من الذين يستحقون أن يكونوا رجالاً مسلمين مؤمنين كما سماهم الله سبحانه وتعالى.