القضية الثانية: أن الذين سيتقدمون ليدلوا بأصواتهم إذا كان الذي يدفعهم لذلك العصبية للقبيلة أو للأسرة أو للمنطقة، أو لهوى أو لمال، أو لمنصب يتوقعونه من هذا وذاك، فنقول لهم: هذه أمانة ستسألون عنها عندما يعرض العباد على رب العباد، وسيقال لكل واحد منكم: كيف قدمت فلاناً؟ فإذا قلت: هذا الذي أعتقد أنه أتقى هؤلاء الذين نزلوا لهذه المهمة، وكانت نيتك وقصدك كذلك نجوت، وإن لم يكن الأمر كذلك فستحاسب.
وقد قلت في البداية: إن الرجل الذي يتقدم لأي منصب أول شرط فيه أن يخاف الله ويخشاه، وأن يلتزم بشريعة الله سبحانه وتعالى، وأن يريد الخير للإسلام والمسلمين، فإذا كانوا كلهم بهذه الصفات فإننا نفاضل بينهم: من الأقوى ديناً وأمانة، فإذا كان الأقوى هو فلان قدمناه؛ لقوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
فهناك صفتان ينبغي أن يتوفرا فيمن يتقدم لذلك وهما: القوة والأمانة، والقوة هنا تتمثل في فهم الأمور، ومعرفة التصرفات، ومعرفة كيف تجري أمور الدولة وشئون السياسة، وما الذي ينفع الإسلام وما الذي لا ينفعه، فعلى المرء أن يضبط لسانه، فيعبر به عما يريد، فلا يريد إلا الحق، ولا يميل مع الهوى ولا يميل لدنيا، وإنما يقول كلمة الحق؛ لأنها ترضي الله سبحانه وتعالى، فيختار الرجل الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بالقوة والأمانة، فالله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
قال علماء التفسير: معنى ((أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا))، هو وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فوضع الرجل في غير مكانه خيانة للأمانة.
فالوظيفة والمنصب أمانة فأعطوا ذلك من يستحقه، ولا تعطوه من لا يستحقه فإن الله سائلكم عن ذلك، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58]، فاختيار الأتقى والأورع هو لمصلحتك ولمصلحة الناس، وإن لم يكن من الأسرة أو العشيرة أو المنطقة، فاختياره لتقواه وورعه ينال بذلك المسلم أجراً يدوم خيره ويستمر، فسيجد الإنسان أجر ذلك عند ربه يوم القيامة، وإلا فسيكون كمن يسعى إلى حتفه بظلفه، فيجلب لنفسه بلاء وإثما.
ً فالقضية تحتاج إلى تقوى وورع وما أصاب المسلمين اليوم إلا أنهم خالفوا أمر الله سبحانه وتعالى فأدوا الأمانة إلى غير أهلها، وقد سأل سائل الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
فإذا كان الأمر موكلاً إلى المسلمين الذين يؤمون بيوت الله وكان لهم في ذلك خيار، فينبغي عليهم أن يختاروا الأتقى والأقوى والأكثر أمانة، وينبغي للمسلم أن يتجرد لله في اختياره فلا يدخل في اختياره هوى، ولا مصلحة دنيوية، ولا قرابة دم أو نسب، ولا صداقة، وإنما يختار الأورع والأتقى، ولو كان المرشح أباً أو أخاً أو ابن عم، فالقضية قضية إيمان وتقوى وحرص على طاعة الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى سائلنا عن ذلك.
وأما أن يدعى الإسلام، والكلام فيه، والحديث عنه ثم عندما يأتي المحك لا يستطيع أن يخالف رأي قريبه في طاعة الله عز وجل فالقضية لا تكون بهذا الشكل.
وإذا تقدم رجل قريب لهذا المنصب ويكون أخاً أو أباً وهو لا يتوضأ ولا يصلي لله ولا يتوجه إلى بيوت الله، ولا يتوجه شطر البيت الحرام، ولا يفتح كتاب الله، ثم تضعه في هذا المكان فماذا تنتظر منه؟ وماذا ينتظر من مثل هذا الرجل إلا أن ينادي غداً بإباحة الخمر والاختلاط بين الرجال والنساء، وأنت تتحمل هذه الجريمة، وعندما يوافق على إقصاء شريعة الله عن الحكم، وأنت تتحمل هذه الجريمة، وتنال شيئاً من وزره، ويحاسبك الله سبحانه وتعالى على ذلك؛ لأنك أنت الذي تسببت في حصوله على هذا المنصب، فإذا كنت مسلماً فقل من البداية لا أفعل ذلك ولا أختارك، فهناك من هو أتقى منك، وهذا حكم ينبغي أن يكون في جميع تصرفات المسلمين.
في حياتهم، فإذا ما رضي رضي لله سبحانه وتعالى، وإذا ما غضب غضب لله، وإذا ما أحب أحب لله سبحانه وتعالى، وإذا ما أبغض أبغض لله، وهذا أساس الدين: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]، وكما يقول ابن عباس: وهل الإيمان إلا الحب في الله والبغض في الله.
فهذا هو أساس الدين الذي يسير عليه المسلم، فعندما يفعل الفعل فإنه يفعله لأن الله يحبه، وعندما يحب فلاناً إنما يحبه لأنه يحب الله سبحانه وتعالى ويحب الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك الأعمال والأقوال، فهذا مبنى حياة المسلمين وطريقتهم، إلا أن بعض المسلمين متناقض، فإنه يأتي بيت الله يقرأ القرآن ويذكر الله سبحانه وتعالى، فإذا جاءت الأمور العملية التي يخالف فيها رأي فلان حكم الله إذا به يختار رأي فلان وما يحبه ويريده فلان، سبحان الله العظيم! فهذا التناقض قائم في حياة الناس، ومشكلة المسلمين اليوم أن حياتهم مليئة بالتناقضات في تصرفاتهم وفي أعمالهم، وهذا شر ومرض ينبغي أن يتخلصوا منه، وهو جزء من النفاق العملي الذي يعيشه المسلمون، فهناك نفاق عملي، فهناك فارق بين ما يقوله المسلمون وما يتحدثون عنه وما يعتقدونه وبين تصرفاتهم وأعمالهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.