يحاول أصحاب السلطان دائماً إغراء أصحاب الدعوات؛ كي يتنازلوا عن شيء من دعوتهم، وذلك بالترغيب حيناً وبالترهيب أحياناً، وقد عرضت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم المال والنساء والملك؛ كي يخفف من دعوته، ويتخلى عن شيء من مبادئه ورهبته بالقتل والإخراج من الأرض.
وقد يحاول بعض أصحاب السلطان التوصل إلى حل وسط مع أصحاب الدعوات، فقد عرضت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم يوماً ويعبدوا إلهه يوماً، وقد يطلبون بعض التعديلات الطفيفة على منهج الداعية وأسلوبه، وقد يعرضون عليه التخلي عن بعض أتباعه؛ كي يجالسوه ويتبعوه ويسيروا معه، والجواب على هذا واضح لا غموض فيه وهو: أننا لا نتخلى عن شيء من الحق، ولا نهادن في الباطل، ولا نستجيب للمطالب الظالمة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6]، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
إن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، ويقبل إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف حيث سلم أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء، وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها، والتسليم في جانب ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها هو هزيمة روحية؛ لأن فيه الاعتماد على أصحاب السلطان في نصر الدعوة، والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في دعوتهم، ومتى دبت الهزيمة في أعماق القلوب فلن تنقلب الهزيمة نصراً.
لقد امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أن ثبته على ما أوحى إليه وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه الركون إليهم ولو قليلاً، ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهي العذاب في الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين والنصير، {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75].
لقد وقع في هذه الفتنة رجال كانوا يتصدرون العمل الإسلامي، كانوا ملء السمع والبصر، فبعضهم أغراه الترغيب والمغنم العاجل القريب، وبعضهم أخافه الترهيب، وبعد سنوات من سقوطهم في الفتنة أصبحوا طبولاً جوفاء تسبح بحمد الظالمين، وأرادوا أن يجروا المسلمين إلى مسارهم المظلم، ولكن الدعوة سارت في طريقها وخلفتهم وراءها، واليوم هناك رجال يبدو من فلتات لسانهم ركون إلى الذين ظلموا، وذلك في حديثهم اللين مع الظالمين -نسأل الله لنا ولكم العصمة- ولكن دعوة الله سائرة، وكل ما يحدث أننا سنحزن على الذين يسقطون في المسيرة، ولكننا لن نرضى أن تنحرف المسيرة.