الموقع المراد لهذه الأمة هو أن تكون أفضل الأمم، وأن تكون خيرها، وأن تكون قائدة لركب البشرية، ومعلمة لها، وأن تحكم البشرية في عقائدها، وفي تصوراتها، وفي أخلاقها، وفي قيمها.
والأمة ينازعها في ذلك غيرها، فكل أمة تدعي ذلك، وتزعم أنها أفضل الأمم، وكل أمة تبذل في سبيل تثبيت خيريتها وأفضليتها، تبذل من وقتها ومالها وفكرها، بل إنها تدفع أبناءها في ميدان الحرب والقتال لتقرر ذلك، وقد واجه الصحابة هذه الحالة في عصرهم، ثم واجهها المسلمون بعد أن قامت دولة الإسلام، متمثلة في الدول الكبرى، وفي الديانات القديمة، وفي الملل والنحل، فالفرس يقولون: نحن خير الناس، والروم يقولون: نحن خير الناس، اليهود يقولون: نحن أفضل الناس، والنصارى يقولون: نحن أفضل الناس، قال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة:135]، وقال تعالى: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) -وهم المشركون- {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113]، وهذه هي سنة الله في البشر، أي: أنه زين لكل أمة عملهم، ومن هذا التزيين ينشأ الاختلاف والصراع، وكل حزب بما لديهم فرحون، وهذا قد يزلزل يقين المسلم في دوره في الحياة، وقد يجعله يهتز ويضطرب، ولا يصلح لقيادة ركب البشرية، وهكذا من لم يوقن بدوره ومركزه في واقع الحياة.
هذه الآية ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) هي أول الآية الثانية من الجزء الثاني من القرآن، والجزء الأول أكثره بيان لموقف أمة تزعم أنها خير الأمم، وتدعي أن الذي فضلها هو الله تبارك وتعالى، ألا وهم اليهود، فكانت جولة طويلة مع اليهود الذين يزعمون هذه الدعوى، أي: وأنهم أفضل الناس من أخيرهم، وبين الله لهم أن هذا صحيح إذا استقاموا على خصائص الوحي الإلهي، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]، ثم بيَّن لهم كيف أنهم انحدروا في عقيدتهم وتصوراتهم وأخلاقهم وقيمهم، وانحرفوا عن هذا المركز، وتحولوا عنه؛ لأنهم لم يثبتوا عليه، وكشف نقضهم للعهود والمواثيق، وتحريفهم للكتاب، وسفك بعضهم لدم بعض، وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم، واتباعهم للسحر وللشياطين، فعندما فقدوا الخصائص التي تجعلهم خير أمة أخرجت للناس، كأنه قال لهم: لقد تحول الميزان، وتحولت القيادة منكم، وجاءت أمة جديدة تملك هذه الخصائص، أمة لها دينها الغض الحي، ولها قيمها وموازينها وهذه هي الأمة الفاضلة، أما أنتم فقد فقدتم دوركم؛ لأنكم فقدتم خصائص الأمة الصالحة الطيبة.
وتأتي هذه الآية في جولة مع اليهود عندما شككوا في هذا الدين، فقد حول الله تبارك وتعالى القبلة من بيت المقدس إلى البيت العتيق؛ لأن الأمة الفاضلة لا يجوز أن تكون تابعة لغيرها من الأمم في قبلتها، فأراد الله تبارك وتعالى أن يخص هذه الأمة بقبلة تميزها: فقال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة:150]، وكان اليهود يقولون: محمد والمسلمون تبع لنا يتوجهون إلى قبلتنا، فخص الله هذه الأمة بقبلة تميزها، هي خير جهة؛ لأنها تتجه إلى البيت العتيق الذي بناه إبراهيم عليه السلام، فشكك اليهود في هذا، فوصفهم الله بالسفهاء، وقال: هذه هي الأمة الفاضلة التي اخترت لها هذه القبلة الطيبة، قبلة إبراهيم عليه السلام.
فهذه أمتنا من خلال ما رسمه القرآن الكريم، وهذا واقعنا الذي نعيش فيه، وبين الدور الذي رسمه القرآن والواقع الذي نعيش فيه فرق كبير كالفرق بين الثرى والثريا، وكالفرق بين الأرض والسماء! وإذا ما عادت هذه الأمة إلى خصائصها، وما استقامت على عقيدتها وشريعتها ومثلها وقيمها، فستعود تلك هي الأمة الوسط، وتعود خير أمة أخرجت للناس.