إن الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في جهودكم، وأن يجعلكم طليعة هذه الأمة الوسط، التي تقود البشرية في حاضرها كما قادها أسلافها في ماضيها، وفي ظني أن القائمين على المؤتمر قد وفقوا أيما توفيق في اختيار الموضوع الذي تدور حوله هذه الندوات والمحاضرات: الأمة الوسط.
وسر التوفيق في ظني: أنها دعوة للباحثين والمفكرين ولأبناء هذه الأمة ليعيدوا النظر في موقع أمتهم بين الأمم، ونحن اليوم -أيها الإخوة- في ذيل الركب الإنساني، نحن الآن نصنف في العالم المتخلف الثالث، فهذا هو موقع أمتنا، وهذا الموقع الذي تعيشه الآن، هو الموقع الذي شاء الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أن تكونه، لكن انظروا معي نظرتين، انظروا معي في ماضي هذه الأمة، كيف كانت؟ ثم قارنوه بحاضرها، أي: كيف هي الآن؟ ستجدون فرقاً هائلاً وبوناً شاسعاً، وانظروا معي نظرة أخرى إلى واقع هذه الأمة اليوم، ثم انظروا إلى الدور الذي رسمه القرآن لهذه الأمة من خلال نصوص آيات الكتاب، ومن خلال أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتدبروا الآية التي هي شعار هذا المؤتمر: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:143]، فهذه الآية تحدد دور هذه الأمة وتبين موقعها بين الأمم، قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا))، والوسط في لغة العرب: الخيار والأفضل والأكمل، قال تعالى: ((قَالَ أَوْسَطُهُمْ)) أي: خيرهم {لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، وفي الحديث: (الفردوس وسط الجنة وأعلى الجنة)، والوسط في أصله: الجزء بين الشيئين، والنقطة المتوسطة بين طرفين، وكانت النقطة المتوسطة هي أفضل شيء؛ لأنها مركز الاعتدال، ولأنها بعيدة عن التطرف، ولأن العوار والفناء كما يقول الزمخشري إنما يصيب الأطراف أولاً، فلا يصل إلى المركز إلا بعد أن تفنى الأطراف.
فهذه الأمة خير وأعدل وأفضل الأمم، وذلك ما قرره الحق تبارك وتعالى، بل إن القرآن يصرح به في آية أخرى وهي قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فهذه أمتنا من خلال كتاب ربنا، وأريد أن تستعيدوا معنى قوله تعالى: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))، وقوله في الآية الأخرى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، فقوله: (جعلناكم) ما مفهومه؟ أو ما معناه؟ أمعناه خلقناكم أمة وسطاً؟ لا، فالأمة مخلوقة قبل أن تكون أمة وسطاً، وإنما المراد: صيرناكم أمة وسطاً، وبم صرنا أمة وسطاً؟ بهذا الإسلام، وما الذي أخرجها فأصبحت خير أمة أخرجت للناس؟ إنه هذا الدين، الذي رسم عقيدتها ووضع شريعتها، وبيّن أخلاقها وجاء بقيمها وتصوراتها، فعندما استقامت على منهج الله تبارك وتعالى، وحققت الإسلام في أنفسها، واصطبغت بصبغة الإسلام؛ أصبحت هي الأمة الفاضلة والأمة الخيرة، وعندما يتناقص هذا ثم يفنى في الأمة فإنها تنحدر من خيريتها، ويصبح حالها كحالها اليوم، وعندما تسامت هذه الأمة في مطلع الدعوة في عقيدتها وسلوكها ومنهجها أصبحت خير أمة.
والوسطية والخيرية ليست لقباً يعطى من غير مضمون؛ إنما هو عنوان لحقيقة تجسدت في الأمة، حقيقة تراها في الرجل الأول في هذه الأمة، في محمد صلى الله عليه وسلم، وتراها في أبي بكر الصديق، وتراها في عمر بن الخطاب، وتراها في جيل الصحابة، وتراها في جيل التابعين، وتراها في العلماء والمفكرين، وفي الدعاة والمصلحين، فأصبحت خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.