لقد جعل الله تبارك وتعالى الشهر الذي أنزل فيه هذا الكتاب خير الشهور، والليلة التي أنزل فيها خير الليالي.
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فكان شهر رمضان خير الشهور؛ لأن الله أنزل فيه كتابه، بل كما في الحديث أن جميع الكتب السماوية أنزلت في هذا الشهر: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن.
وكانت الليلة التي أنزل فيها القرآن خير الليالي: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3].
إن هذا الشهر الكريم يذكر المسلمين بعزهم الذي فقدوه، ومكانتهم التي هبطوا عنها، وبدورهم الذي تنكبوا عنه، فمناسبة هذا الشهر الكريم تأتيهم لتقول لهم: اغسلوا ذنوبكم، اغسلوا آثامكم، ارتبطوا بكتابكم، ارتفعوا إلى المستوى الذي يريده ربكم.
هذا الشهر لا نفرح فيه كما يفرح البشر بأعيادهم: يطلقون الصواريخ، ويلعبون، ويرقصون، ويهزجون، إنه نمط آخر من الأفراح، إنها أفراح الروح يلجأ فيها المسلمون إلى ربهم، ويهذبون هذه النفوس التي رانت عليها أقذار الذنوب، وغشتها المعاصي، يتبتلون إلى الله بالصيام، ويتبتلون إلى الله بالقيام، ويتبتلون إلى الله بقراءة القرآن، ويصلون ما انقطع بينهم وبين الله من حبال، ويرتفعون مرة أخرى.
يأتيهم هذا الشهر ليذكرهم بكل شيء، يذكرهم أنهم هم الأمة التي أنقذها هذا الكتاب، ليذكرهم أن منهج هذا الكتاب غير منهج روسيا وأمريكا وهيئة الأمم ومجلس الأمن، بل فيه أحكام إلهية، وتشريعات ربانية، غير ما جاء به علماء الشرق وعلماء الغرب والفلاسفة من قوانين ونظريات فاسدة كالنظريات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، التي هي كموج البحر تغشى عقول المسلمين وتغطي قلوبهم.
هذا كتاب من نمط فريد، ضيعه المسلمون وجعلوه وراء ظهورهم، يأتي هذا الشهر ليقول: ابتعدتم كثيراً، نسيتم الله فأنساكم أنفسكم، نسيتم الله فضاعت دياركم، وانتهب الأعداء بلادكم وأرضكم وأموالكم، يا مسلمون! هذا كتاب ربكم أنزل في هذا الشهر فاستمدوا منه الهداية، وعودوا مرة أخرى، اغسلوا هذه الذنوب التي وقفت حوائل وحجباً وحواجز بينكم وبين الله تبارك وتعالى.
وفي هذا الشهر الكريم يضاعف الله أجر العبادة وثوابها وخيرها وعطاءها، وتغل فيه أيدي الذين يبعثون الشر من الشياطين المردة، فيتدفق النور والضياء إلى قلوب البشر لعلهم يهتدون، وهذه فرصة قد لا ندركها مرة أخرى، كم من رجال كانوا معنا في رمضان الفائت، ثم اليوم قد طواهم الردى وهم تحت التراب، ولعل بعضنا قد لا يدرك هذا الشهر في سنة أخرى، فعلى المسلم أن ينتهز هذه الفرصة.
ومن هنا دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بالخسران على من أدرك رمضان ثم خرج رمضان ولم يغفر له فقال: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه)، وأحد الثلاثة الذين رغمت أنوفهم (من أدرك رمضان ولم يغفر له) وقال صلى الله عليه وسلم: (رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما إذا ما اجتنبت الكبائر)، فهو كفارة لما بينهما، أجر عظيم تحدثت عنه النصوص، وثواب جزيل قد لا ندركه مرة أخرى.
فليعزم المسلم على أن ينتهز هذه الفرصة فيستغل أيام هذا الشهر ولياليه وساعاته وأوقاته في التقرب إلى الله تبارك وتعالى، في أن يحط عن ظهره الذنوب والآثام والخطايا التي أثقلت ظهره، ويتخفف منها كي يجوز عقبات الطريق وهو يغادر الدنيا إلى الآخرة، وهو يبعث من قبره، وهو يقف بين يدي ربه، وهو يجوز الصراط، ليتفكك من ذنوبه وآثامه، ويكثر من حسناته ويقلل من سيئاته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم إنه هو الغفور الرحيم.