فيأتي ملك الموت يعاينه الإنسان قال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] أنت تشاهد وتبصر ما لم تكن تبصر، الإنسان في العادة لا يبصر الملك، لكن في هذه اللحظات يكشف عنه الغطاء، ويصبح عنده قوة بصر؛ لأنه وضع رجله في أول درجات الآخرة، فيشاهد ويرى وينظر.
أما الكافر فيقول ملك الموت: (أيتها النفس الخبيثة! كانت تسكن في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب من الله وسخطه، فتتفرق في جسده، تتفرق وتخاف وتفزع، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبتل) السفود: هو السيخ الذي يشوى عليه اللحم، فتكون عليه نتوءات من بقايا اللحم، فإذا ما أدخل في الصوف المبلول علق الصوف المبلول به، ولا نستطيع تخليص الصوف إلا بصعوبة ومشقة، وكذلك ينتزع هذه الروح لا كما حدث مع المؤمن بسهولة ويسر، وإنما ينتزعها بصعوبة ومشقة، وفي ذلك زيادة عذاب وألم لذلك الكافر.
(فإذا انتزع هذه الروح أخذها منه الملائكة وخرجت منها كأخبث رائحة وجدت، فيقولون: روح من هذه هذه الروح الخبيثة؟! فيقولون: روح فلان بن فلان بأخبث أسمائه، فيجعلونها في ذلك الحنوط وذلك الكفن الذي هو من النار، فيصعدون بها إلى السماء فلا تفتح لها أبواب السماء، فتلقى، ويقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم آية الحج: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ويعاد إلى قبره فيسأل كما سئل المؤمن).
ولكن شتان بين السؤالين! شتان بين الإجابتين! ذلك كان في حياته ثابتاً على الحق لا يتلجلج، عرف الحق فتمسك به، وثبت عليه، أما هذا فكان ضالاً زائغاً، أو كان متردداً شاكاً.
يسألونه عن ربه ودينه، وعن الرجل الذي بعث، فيقول: ها ها لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقال له: لا دريت ولا تليت، أي فأنت لم تعرف ولم تتبع، ولم تبحث عن الناس الذين يعرفون وتتبعهم، فلا أنت من الأئمة الذين يقتدى بهم، وأصحاب العلم الذين يعرفون، ولا أنت من الذين يتبعون أهل الحق، ويتبعون العلماء.
(وينادي مناد أن كذب عبدي، فأفرشوا له قبره من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، فيقال له: انظر ذاك مكانك في الجنة لو كنت مؤمناً - فيرى ما كان سيحصل عليه من نعيم وقصور وجنان - أبدلك الله به ذلك المكان في النار) فيرى ما يعد إذا ما قارن نفسه بما هو فيه في ذلك الوقت من عذاب يجده أخف بكثير من ذلك العذاب الذي سيكون في يوم القيامة؛ فيقول: رب لا تقم الساعة! يخشى أن تقوم الساعة، فيصير إلى عذاب أشد، وهول أعظم وأكبر.
فيقول: رب لا تقم الساعة! رب لا تقم الساعة! رب لا تقم الساعة!.
(ويأتيه رجل خبيث الرائحة، قبيح المنظر، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث) أي: أنا الظلم الذي كنت تفعله، والعقائد الفاسدة التي كنت تعتقدها، والضلال الذي وقعت فيه وأوقعت الناس فيه! قطيعة الأرحام، وترك الصلاة والصيام، وترك الحج وفعل المنكرات تتمثل في إنسان خبيث في ذاته، قبيح في شكله، رائحته منتنة قبيحة تؤذي هذا الإنسان في قبره، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالشر، فيقول: أنا عملك السيئ، أنا عملك الخبيث.
هذا الحديث وأحاديث كثيرة جداً تتحدث عن نعيم القبر وعذابه، وتدل على أن رحلة الإنسان التالية لهذه الحياة تكون في القبر وهو ما أسماه القرآن حيث قال الله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، والبرزخ هو الفاصل بين الشيئين، ويعنى به هنا الفترة الفاصلة ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، ولذلك قال الله جل وعلا حيث سمى دخولنا المقابر زيارة: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]، فدخول القبر ليس نهائياً، إنما هي زيارة، والزائر سيرحل يوماً ما، فهذه الفترة هي المرحلة التالية لحياة الإنسان.
قد يقول بعض الناس من الذين لا يوقنون ولا يؤمنون، والذين يعلمون الأمور الظاهرة في الدنيا ولا يعلمون أمور الآخرة: نحن نشاهد الناس بعد موتهم لا يعذبون ولا ينعمون، وقد نفتح قبورهم فلا نشاهد شيئاً! فهؤلاء مساكين، لأنهم لا يعلمون أن الإنسان جسد وروح، والروح سر الحياة، والعذاب والنعيم يقع على الروح، والروح تبع للجسد في الدنيا: فالعذاب والنعيم للجسد، والأرواح تابعة للأجساد، أما في القبر فتنعكس القضية، فالنعيم والعذاب للأرواح والأجساد تابعة لها، وفي الآخرة يشترك الجسد والروح على قدر سواء في العذاب والنعيم، وأقرب ما يمثل العلماء لهذا بالنائم، فأنت تراه نائماً بينما هو في نومه منزعجاً، وقد يصرخ وأنت لا تشعر بما يجري له، وقد يرى شيئاً طيباً جميلاً يفرح به ويسر به، وأنت لا تشعر به.
نكتفي بهذا المقدار، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا جميعاً من أهل الجنة، وينجينا من النار، وأن يكتب لنا في هذه الدنيا وفي الآخرة حسنة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.