عندما ندرس القرآن الكريم والأحاديث النبوية نجد فيها تفصيلاً لرحلة ما بعد هذه الحياة منذ أن تنزع الروح؛ لأن هذه أمور غيبية لا نعلمها إلا من طريق الوحي.
تبدأ رحلة الإنسان منذ أن يأتيه ملائكة الموت، وللموت ملك موكل بقبض أرواح الناس، وله ملائكة يعينونه في ذلك، فإذا جاء الأجل الذي حدده الله سبحانه وتعالى أرسلت رسل يقبضون روحه، ويكون قبض الروح وأشكال الملائكة بحسب حال الإنسان صلاحاً وتقى، أو فساداً وفجوراً، فالكافر والمنافق والفاجر ترسل له الملائكة بصورة مفزعة، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
هذا في لحظات الموت عندما يأتي الموت المؤمنون تتنزل عليهم ملائكة الرحمة، تقول لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا، أي: لا تخافوا مما هو آتٍ في القبور والمحشر والمنشر، ولا تحزنوا على ما خلفتم من ذرية وأهل {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] ومن كان الله وليه فكيف يخاف ويفزع؟ وهذا بعكس المنافق والكافر، فإنه يتنزل عليه الغضب والتبشير بالعذاب كما أخبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الطويل: (إن المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة أتته ملائكة كأن وجوههم الشموس، فجلسوا منه مد بصره).
فالإنسان في حال الموت يكشف عنه الغطاء فيشاهد ملائكة يراهم كأن وجوههم الشموس، فيجلسون منه مد بصره، ثم يأتي ملك الموت، ومعه حنوط من الجنة، وكفن من الجنة، فيقال: أيتها النفس الطيبة! التي كانت تسكن في الجسد الطيب اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، فينتزعها، فتسيل قطرة قطرة كما يسيل الماء من فم السقاء طيبة نظيفة طاهرة.
ثم تأخذها الملائكة فتضعها في ذلك الكفن وذلك الحنوط الذي هو من الجنة، وتخرج منها كأحسن نفحة مسك وجدت، فهي طيبة طيبتها أعمالها الصالحة، طيبة الإيمان، طيبتها المسيرة الخيرة في الدنيا، ويصعدون بها إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء، ويسيرها من كل سماء مقربوها إلى السماء السابعة، وهناك يقول الله سبحانه وتعالى: (أعيدوا عبدي إلى قبره، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى).
تعود إلى القبر فيأتيها الملكان اللذان يختبران العبد في قبره فيسألانه عن منهجه وطريقه في الحياة، ومعتقده في القضايا الخطيرة، فالمؤمن يجيب أنه كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيقولان: إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] فهذا هو التثبيت، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اسألوا لأخيكم الثبات فإنه الآن يسأل).
فإذا نجا الإنسان من هذا الموقف فما بعده أسهل، وإن لم ينج فما بعده أصعب، فهذه بداية الطريق إما شقاء أبدي وإما نعيم أبدي، في بعض الروايات: يسألانه عن دينه، يسألانه عن ربه، يسألانه عن الرجل الذي بعث فيهم، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا الرجل الذي بعث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات يقول: (أنا كنت أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوا له قبره من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل طيب الرائحة حسن المنظر، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح) يتمثل العمل الصالح للإنسان رجلاً يؤنسه في قبره، (ثم يكشف له الغطاء فيقال له: ذاك مكانك في النار لو كنت كافراً).
كل إنسان له مكانان: مسلم أو كافر، مكان في الجنة ومكان في النار، المؤمن ينجو من النار ويأخذ مكانه في الجنة، فأمكنة الكفار التي في الجنة يرثها المؤمنون، والكفار يخسرون أماكنهم في الجنة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15] يخسرون أماكنهم في الجنة، ويرثون أماكن المؤمنين التي في النار، ولذلك سمى ربنا يوم القيامة فقال: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] أين يوم التغابن؟ لأن المؤمن يرث أماكن الكفار التي في الجنة، والكافر يرث أماكن المؤمنين التي في النار، فهذا غبن عظيم ولكن يستحقه الكفار بسبب كفرهم، ويستحقه المؤمنون بسبب إيمانهم.
يقال للمؤمن في القبر: (انظر إلى مكانك في النار، فهذا هو المكان الذي كنت ستحل فيه لو كنت كافراً، قد أبدلك الله به ذلك المكان في الجنة، فيرى قصوره وبساتينه وما أعد الله له من نعيم، فيقول: رب أقم الساعة! رب أقم الساعة! رب أقم الساعة! حتى أرجع إلى مالي وأهلي).
ثم يصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم رحلة الكافر فيقول: (والعبد الكافر إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة أتته ملائكة - ويصف الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم على أشكال بشعة مفزعة - فيجلسون منه مد بصره، وتأتي الملائكة معها بكفن من النار وحنوط من النار، ويأتي ملك الموت فيجلس عند رأسه، ويقول: أيتها النفس الخبيثة! كانت تسكن في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب من الله وسخط) فملك الموت يشاهده الإنسان عند الموت ويراه.
جاء في الحديث أنه عندما يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: (ينادي مناد: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، ثم ينادي: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، فيقول: أتعرفون هذا؟ فينظرون إليه، فهم يعرفونه؛ لأنهم رأوه، فيقولون: نعم، هذا الموت) كيف رأوه؟ عندما يموت الإنسان يراه، كل إنسان سيرى الموت، ويشاهده، (يقولون: نعم يا ربنا! هذا الموت نعرفه، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت).