لقد اشتملت هذه الآية على عدة فوائد: أولها: مشروعية الضرب في الأرض والسفر للتجارة أو للغزو، وهذا دأب الصالحين من عباد الله منذ القديم.
ثانيها: وجوب التبين والتثبت قبل الإقدام على سفك الدم.
ثالثها: وجوب أخذ الناس بظواهرهم وإرجاع سرائرهم إلى الله تعالى، فكل من شهد شهادة الحق فإننا نجري عليه أحكام الإسلام، ولو مات صلينا عليه ودعونا له، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]، وأما هل هو في باطنه مسلم أو ليس مسلماً فهذا علمه عند ربي سبحانه.
رابعها: تحريم التشكيك في النوايا، والتفتيش عما في الصدور، فلا تقل: فلان نيته ليست خالصة، وفلان نيته ليست بطيبة، فلان ما أراد بالإسلام إلا منفعة دنيوية؛ لأن ما في القلوب لا يطلع عليه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، وأما أنت فعليك بالظاهر، ثم من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فالله عز وجل نهى الصحابة عن القتل من أجل عرض الدنيا، وقال لهم: ((فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)).
ومن فوائد هذه الآية: الاعتبار بالحال السابقة وبذل الأعذار للناس، فبعض الناس يكون في ضلال وخبال، ثم يمن الله عليه بالهداية فيستقيم ويحافظ على الفرائض، ثم بعد ذلك هذا الإنسان الذي كان ضائعاً حتى الأمس القريب إذا رأى إنساناً في ضياع مفرط فإنه ينظر إليه شزراً ويشمت به، لا، المفروض أن يعتبر هذا الإنسان الشامت بحاله التي كانت من قبل، ويرجو كما من الله عليه أن يمن على أخيه المسلم.
ومن فوائد الآية: عظيم منة الله على المؤمنين بإعزاز الدين وإظهار أهله، فقد من الله علينا بإظهار ديننا ونشر ألويته في الآفاق.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه: دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطرح ما من شأنه إدخال الشك؛ لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده، وكما يتهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه، وتتنابز الأمة بالألقاب: يا كافر! يا مشرك! يا منافق! يا عدو الله! ونحو ذلك من التهم التي ما ينبغي أن تشيع في مجتمع المسلمين.
أختم هذا البحث فأقول: إذا كانت الآية فيمن أظهر الإسلام ولم يُعلم الباعث له على ذلك فأين هذا من حرْص من لم يهتدوا بكتاب الله في إسلامهم ولا في عملهم في الأحكام على تكفير من يخالف أهواءهم من أهل القبلة، بل من أهل العلم الصحيح والدعوة إلى الكتاب والسنة؟ فقد نبتت في الناس هذه النابتة فنسأل الله العافية، وسلفهم في ذلك الخوارج؛ فإنهم يحرصون على تكفير كل من خالفهم في صغير أو كبير، ولو كان المخالف لهم أقدم إسلاماً وأرسخ إيماناً وأقوى علماً كـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكذلك نبتت في المسلمين نابتة إذا خالف الواحد منهم أخاه فإنه يسارع إلى تبديعه واتهامه بأنه مخالف للسلف، مباين لسبيل الأولين، وأنه قد أتى بحلة جديدة وملة ما عرفت، وهكذا يبدأ الناس يتنابزون بالألقاب؛ فهؤلاء جميعاً نخاطبهم بقول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا))، وخاصة إذا كانت المسألة حمالة أوجه، وللاجتهاد فيها مساغ، وقدر أن هذا المسلم يصلي معك الخمس، ويستقبل معك قبلة واحدة، ولعل له تأويلاً سائغاً، ولعل له سلفاً ممن سبقه من أهل العلم، فنسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.