النداء العشرون في الآية التاسعة والعشرين من سورة النساء: قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29].
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف العاشر (تجارةً)، بنصب التاء، على أن (كان) ناقصة، واسمها ضمير يعود على الأموال و (تجارة) خبرها، فالتقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة.
وقرأ الباقون (تجارةٌ) برفع التاء على أن (كان) تامة، تكتفي بمرفوعها، والتقدير: إلا أن تحدث تجارة أو تقع تجارة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)) قال المسلمون: إن الله نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل أموالنا، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فشق على الناس، فأنزل الله سبحانه، {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61]، إلى آخر الآية التي في سورة النور.
وهذه الآية المباركة فيها بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة، ففي الآية إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور.
يقول الله عز وجل: ((لا تَأْكُلُوا)) الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعاً تاماً، ولا يعود معه إلى الغير، أكل الأموال والاستيلاء عليها عليها بنية عدم إرجاعها إلى أربابها، قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية، كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في قالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا.
ومن أكل الأموال بالباطل: أكل مال اليتيم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، وكذلك الرشوة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة والإمام أحمد في المسند.
ومن أكل أموال الناس بالباطل: احتكار السلع الضروريات لإغلائها، وبيع ما ليس يباع كالعرض والذمة والخلق والدين والضمير.
قال تعالى: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، وهذا استثناء منقطع، وكأنه سبحانه يقول: لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في الأموال، لكن المتاجرة المشروعة كعقد المضاربة والمشاركة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال، كما قال سبحانه {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، وكقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56].
والتجارة في اللغة: المعاوضة، ومنه الأجل الذي يعطيه البارئ سبحانه للعبد عوضاً عن الأعمال الصالحة التي هي بعضاً من فعله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10]، وقال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، ويقول الله عز وجل: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) أي: بارتكاب محارم الله، وتعاطي معاصيه، وأكل أموالكم بينكم بالباطل.
قال ابن عطية رحمه الله تعالى: وأجمع المأولون أن المعنى: هو النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً.
وقال الزمخشري عن الحسن: إن المعنى لا تقتلوا إخوانكم، ففي الإجماع الذي نقله ابن عطية رحمه الله نظر.
وقال أبو حيان: وعلى هذا المعنى أضاف القتل إلى أنفسهم؛ لأنها كنفس واحدة أو من جنس واحد.
وقال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)) أي فيما أمركم به، أو نهاكم عنه، فما نهاكم عما يضركم إلا رحمة بكم.
وقيل: بل المعنى: أنه سبحانه أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحيماً، حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
وهذه الآية المباركة تضمنت النهي عن أمرين عظيمين، وأحدهما أعظم من الآخر وهما: النهي عن قتل النفس، والنهي عن أكل المال بالباطل، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته بيده يجؤ بها بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكيناً حز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة) رواه الشيخان من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه الشيخان.