قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض)

النداء السابع عشر في الآية السادسة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران: قو ل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156].

هذه الآية أيضاً في سياق الحديث عن غزوة أحد، فإنه لما قتل من المسلمين سبعون عليهم من الله الرضوان، بدأ المنافقون يشككون المسلمين ويحاولون أن يلقوا الندم في قلوبهم ويقولون لهم: لو قعد هؤلاء الذين خرجوا للقتال كما حكى الله عنهم: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156].

هذه الفرية التي يروج لها المنافقون قال الله عز وجل عنها في سورة النساء: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].

وهنا في هذه الآية الله عز وجل يقول: يا مؤمنون! لا تتشبهوا بهؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بقضاء الله وقدره، فأنتم مؤمنون، قد أنزل الله عليكم قرآناً، وفي هذا القرآن بيان أن الآجال محدودة، وأن الأنفاس معدودة، وأنه {َإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولا يموت أحد إلا في الساعة التي عينها رب العالمين جل جلاله لقبض روحه.

وقوله تعالى: ((لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا))، فلا تكونوا كالمنافقين، أمثال عبد الله بن أبي وأصحابه الذين قالوا كما قال الله تعالى: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ))، فاللام هنا بمعنى عن، أي: عن إخوانهم، والمقصود بالإخوة هنا أخوة النسب، أو اللام لام التعليل أي: لأجل إخوانهم، كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، أي: لأجل الذين كفروا، فقوله تعالى: ((وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ)) أي في النسب.

((إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ)) أي: خرجوا مسافرين للتجارة أو لغيرها ((أَوْ كَانُوا غُزًّى)) أي خرجوا للغزو والجهاد في سبيل الله، لو كانوا مقيمين أو باقين ((عِنْدَنَا)) أي: في الظلال وفي البيوت وحيث هم، ((لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا))، ما ماتوا في السفر، ولا قتلوا في الغزو، قال الله عز وجل: ((لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، فجعل هذا الاعتقاد الفاسد مسيطراً عليهم ومستبداً بهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم قال تعالى: ((لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ))، واللام كما يقول أهل اللغة لام العاقبة، فعاقبتهم الحسرة كما في قوله سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] أي لتكون العاقبة الحزن والحسرة في قلوبهم والعداوة.

فهاهنا أيضاً: ((لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ))، والحسرة الندامة على فراق المحبوب، وهؤلاء المنافقون جلسوا يتحسرون، ويقولون: إخواننا هؤلاء ضيعوا الحزم وما أحسنوا الرأي، ولا أبرموا الأمر، خرجوا للغزو وما كان ينبغي لهم أن يخرجوا، وما زالوا متلهفين على ما فاتهم، وهذا صنيع من لا يؤمن بقضاء الله وقدره.

قال الله عز وجل: ((وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ)) فالحياة بيده، والموت بيده، فقد يحيي من خرج للغزو مع تعرضه للحتوف، وقد يكون في سفينة مع قوم فيغرقون جميعاً ويسلمه الله عز وجل، وقد يكون الإنسان في مكان يشب فيه حريق أو يهدم بيت على من فيه والله عز وجل ينجي من شاء، وقد يكون إنسان آمناً في سربه، وعلى فراشه، وفي ريعان شبابه، وميعة صباه، واكتمال قوته، ووفرة صحته ثم يختطفه الموت.

فـ خالد بن الوليد رضوان الله عليه البطل المجاهد الذي عقمت النساء أن يلدن مثله والذي قال فيه أبو بكر الصديق: إن أسدكم قد عدى على أسد الفرس فغلبه على خراذيله، أي: قطع اللحم التي بين يديه، ولما بدأ خالد يفتح الفتوح في بلاد فارس، -هذا البطل الأشم والأسد الضرغام رضي الله عنه- تعرض للشهادة مراراً حتى بلغ من حاله أنه في بعض بلاد الروم وجد كيساً فاستخرجه ثم سأل سيد الروم وقال له: ما هذا؟ قال له: إنه لم يكن شيء أبغض إلي من شر أدخله على قومي، وإني قلت: لو كان هؤلاء الناس أهل شر أحتسي هذا السم فأموت، يعني: هيأ هذا السم من أجل أن ينتحر، وهذا صنيع الكفار في كل زمان، فقال خالد رضي الله عنه: باسم الله خير الأسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، ثم أخذ السم ليتناوله، فأسرع إليه المسلمون ليمنعوه لكنه غلبهم رضي الله عنه وابتلع السم، فقال ملك الروم: والله! إن قوماً فيهم هذا لن يغلبوا، وما حدث لـ خالد شيئاً رضي الله عنه، فهذه من كراماته، ثم مات هذا البطل على فراشه، وقال وهو على فراش الموت: ما في موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنا أموت كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء! وهذه سنة الله عز وجل، فقد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد وإن كان تحت ظلال النعيم قال الله تعالى: ((وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) فبصره نافذ لا تخفى عليه خافية، قال أهل التفسير: وهذا تهديد للمؤمنين أن يماثلوا المنافقين في هذا الاعتقاد الفاسد.

ونظير هذه الآية قول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168]، وكذلك كان المنافقون يقولون للمؤمنين: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، قال الله عز وجل: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72]، وقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18]، وهذا حال المنافقين، يثبطون المؤمنين عن القتال قبل أن يقع، ثم إذا وقع وقُتِلَ ناس جرياً على سنة الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146]، فهذه سنة الله عز وجل، فهؤلاء يقولون: هؤلاء حمقى مغفلون، سفهاء، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.

وهذه الآية تشير إلى عقيدة لا بد أن تنطوي عليها قلوبنا، وهي الإيمان بقضاء الله وقدره، أنه لا يقع في الكون شيء إلا وقد كتب عند الله، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، أي: من قبل أن نخلقها، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11]، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).

فلذلك الإنسان المسلم إذا نزلت به مصيبة فإنه يستسلم لقضاء الله وقدره، فلو أصابه حادث، أو نزل به نقص في المال، أو هلك له ولد أو والد أو زوج فلا يقول: لو فعلت كذا لما حدث كذا، ولو أني ما أتيت من هذا الطريق لما وقع هذا الحادث ونحو ذلك، بل يجب على المسلم أن يرضى بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، ولذلك ينسب للشافعي رحمه الله أنه صور هذا المعنى فقال: تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015