وههنا مسائل: المسألة الأولى: قال أهل التفسير: هذه السورة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها نزلت وأبو لهب حي، فأخبر الله عز وجل بأنه من أهل النار، وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، وفعلاً مات أبو لهب على الكفر، وكان يملك أن يكذب القرآن بأن يقول: من أجل أن أعلمكم بأن محمداً كاذب، هأنذا أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فكيف أذهب إلى النار، لكنه ما استطاع صرف نفسه عما هو عليه من الكفر؛ ليتحقق وعد الله.
المسألة الثانية: دلت هذه السورة على أن النسب لا يغني عن صاحبه من الله شيئاً، وإذا فسد العمل فلا ينفع النسب كما قال بعضهم: لقد رفع الإسلام سلمان فارس كما حط الكفر الشريف أبا لهب فـ سلمان رضي الله عنه من أبوه؟ من يعرف أباه؟ لا نعرف إلا أنه سلمان الفارسي أبو عبد الله رضي الله عنه، ومع ذلك نحبه ونجله ونترضى عليه، وأبو لهب نعرف نسبه وشرفه وأنه مكي قرشي هاشمي ومن بني عبد المطلب، ومع ذلك إذا ذكرناه قلنا: لعنه الله.
قال الله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101].
فالنسب لن يغني، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا صفية يا عمة رسول الله! اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس يا عم رسول الله! اعمل فإني لا أغني عنك من الله شيئاً).
ولذلك نقول: هذه السورة سيف مصلت على كل رجل وامرأة سلك سلوك أبي لهب وامرأته، وصد عن الإسلام صدودهما، وجحد جحودهما، وعادى الله ورسوله كعداوتهما، فكم في أيامنا من آباء لهب وأمهات لهب، ممن احترفوا عداوة الله ورسوله، وإنما ذلك كما قال الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
كم من الناس يدعون إلى مذاهب وضعية، وكم من يعادي شريعة رب البرية، فهؤلاء نقول لهم: لن ينفعكم أنكم شرفاء أو أشراف، أو أنكم تنتسبون إلى بيت معين، فلن يغني عنكم ذلك من الله شيئاً.
المسألة الرابعة: هذا الرجل من إيغاله في العداوة كان قد زوج ابنيه عتبة وعتيبة من بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقية وأم كلثوم، فلما نزلت هذه السورة أمر ولديه بأن يطلقا بنتي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليثقل كاهله ويزيده هماً وغماً.
ثم بعد ذلك كان الولد شراً من أبيه في العداوة، فأراد أن يخرج مع أبيه في سفر فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل أن يأتي قال لأبيه: لآتين محمداً ولأوذينه في ربه، فجاء فبصق على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا محمد أنا كافر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) فرجع الولد إلى أبيه وقال: يا أبت لقد أتيت محمداً فآذيته في ربه فقال: يا بني وما قال لك؟ قال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، قال أبو لهب: فاحذر يا بني، فإني لا آمن عليك دعوة محمد، فلما خرجوا في ذلك السفر، جمع أبو لهب التجار لما جن عليهم الليل وقال لهم: لقد علمتم أن محمداً دعا على ابني دعوة لا آمنها عليه، فلا تدعوه وحده وافرشوا حوله، ففعل القوم ذلك وجعلوه في الوسط، يقول هبار بن الأسود وهو يحكي هذه القصة بعدما أسلم: فلما انتصف الليل جاء سبع فشم وجوهنا جميعاً، طبعاً هم رأوه لكن كل منهم يصور نفسه أنه نائم، قال: فلما لم يجد بغيته وثب في وسطنا، وأخذ عتبة من بيننا ثم هزمه هزمة فسخ فيها رأسه، فجاب رأسه نصين، قال: فلما أخبرنا أبا لهب قال: لقد علمت أن دعوة محمد لا تخطئ، فهكذا كان يقول.
المسألة الأخيرة: كيف كانت خاتمة هذا الخبيث؟ نعوذ بالله من سوء الختام، ومن خزي الدنيا وعذاب الآخرة، هذا الرجل لما خرج المشركون لمعركة بدر ما خرج معهم وإنما بعث مكانه العاص بن هشام، ثم بعد ذلك جلس في مكة ينتظر الأخبار، فجاء من يحمل الأخبار فقال أبو لهب ماذا صنعتم؟ قال: واللات والعزى ما إن لقينا محمداً وأصحابه حتى منحناهم أكتافنا، يقتلونا ويأسرون، وكان معهم رجال ذوو ثياب بيض على خيل بلق ما رأيتهم قبل ذلك أبداً.
وكان هناك واحد اسمه: أبو رافع، وهو غلام للعباس، فرفع خباءه وقال وهو فرح: هؤلاء هم الملائكة، فعمد عدو الله أبو لهب إلى هذا الغلام فضربه ضربة حتى شجه شجة منكرة، يقول أبو رافع: فشاورته -يعني: صارعته- لكني كنت شخيصاً ضعيفاً فطرحني أرضاً وقعد على صدري، فعمدت أم الفضل -التي هي زوجة العباس - إلى عمود فسطاطها -أي: عمود خيمتها- فضربته على رأسه فشجته وقالت له: استضعفته أن غاب سيده؟! قال: فقام يلعق جراحه، ولم يعش بعد معركة بدر سوى سبعة أيام.
وابتلاه الله عز وجل بالعدسة، والعدسة: غدة معدية كانت العرب تخاف منها، فهلك بها، فلما هلك تركه أولاده حتى أنتن، فجاءهم بعض رجال قريش، فقال لهم: أما تستحون؟ ألا تسترون أباكم؟ قالوا: قد علمت ما أصابه، وإنا نخشى العدوى، قال: هلم أعينكم عليه، فبدأوا يغسلونه من بعيد، يعني: مثلما تغسل سيارة أو حاجة من بعيد، فشروه بالماء ثم حملوه من أطراف فراشه، فأسندوه إلى جدار وغيبوه بالحجارة: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
قال العباس رضي الله عنه: أبا لهب بعدما مات بزمان فقلت: يا أخي ما لقيت بعدنا؟ قال: ما لقيت بعدكم إلا شراً، غير أني أسقى في كل يوم اثنين من نقرة إبهامي، شربة بعتاقتي ثويبة، يعني: لما بشر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد ففرح بأن عبد الله أخاه الذي مات ولد له مولود ذكر فأعتق الجارية، فرحه هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ما ضيعه له الله عز وجل، فيسقى في كل يوم اثنين من نقرة، والنقرة: بين الإبهام والسبابة، فتأتي له كذا نقطة ماء يشربها، لو أعطوها لعطشان فلن تغن عنه شيئاً.
فما بالكم من حمالة الحطب التي مثواها النار، أعوذ بالله من الضلال ومن الخبال، ونسأل الله أن يتوفانا على الإيمان.