إن هجرة نبينا لم تكن بدعاً في سيرة الأنبياء والمرسلين، بل لقد هاجر الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كإبراهيم خليل الرحمن على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فبعد أن دعا قومه إلى الله وقال: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25].
وأبى قومه أن يؤمنوا به، قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:24].
بعد هذا قال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].
فترك تلك الأرض التي أبى أهلها إلا الكفر والإلحاد والشرك به جل جلاله، وهاجر إلى الله عز وجل.
وكذلك نوح عليه السلام لما دعا قومه إلى الله فأبوا الإيمان بالله تعالى، فقال له قومه: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116].
قيل المراد بالمرجومين: المخرجين.
وكذلك لوط عليه السلام قال له قومه: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116].
وكذلك نبي الله موسى عليه السلام لما خاف على نفسه من فرعون اللئيم أن يصيبه بسوء خرج من مصر، كما قال الله عز وجل: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21].
وهذا المعنى أيضاً عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول للدعوة، وذلك عندما نزل عليه جبريل في غار حراء، فرجع عليه الصلاة والسلام إلى خديجة رضي الله عنها يرتجف فؤاده، فطمأنته رضي الله عنها بتلك الكلمات العِذاب: كلا والله يا ابن العم! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وما اكتفت رضي الله عنها بذلك، بل أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان شيخاً كبيراً قد قرأ الكتاب الأول، وله علم بالعبرانية لغة أهل الكتاب، فقص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة بن نوفل: إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى عليه السلام، وقال له: ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال له النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام متعجباً: (أومخرجي هم؟)، أي: هل قومي يجرءون على إخراجي وأنا فيهم من أنا! أنا الصادق الأمين! وأنا العزيز الكريم! وأنا البر التقي؟! فقال له ورقة -وهو العارف العالم-: نعم؛ ما أتى أحد بمثل ما جئت به إلا عاداه قومه وأخرجوه؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان متهيئاً لذلك اليوم، ولكنه كان ينتظر أمر الله عز وجل، وكل نبي من الأنبياء كانت الهجرة له ديناً وديدناً، وسبيلاً لنشر الدعوة، وإحقاق الحق، والانتصار لدين الله عز وجل، وهداية الناس، والتماس الأرض التي ينتشر فيها الخير والنور.