قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] شانئك اسم فاعل من الشناءة أو الشنئان، وهو البغض، فمعنى: ((إِنَّ شَانِئَكَ)) إن مبغضك وكارهك وعدوك سواء كان العاص بن وائل، أو الوليد بن المغيرة، أو أبأ جهل، أو أبا لهب، أو عقبة بن أبي معيط، أو أمية بن خلف، أو شيبة بن ربيعة أو غيرهم من صناديد الكفر، فإنه هو الأبتر، أي: المقطوع الخير والذكر.
وكلمة الأبتر مشتقة من الحيوان الأبتر، وهو الذي قطع ذنبه، فالله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد! سأرفع ذكرك، وأخلد اسمك، وأما كارهك فإني سأطوي خبره وألغي ذكره، وإذا ذكر فلا يذكر إلا مشيعاً باللعنات.
فهذه الآية نراها ظاهرة أكثر مما كانت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان مذكوراً في الجزيرة العربية وما حواليها من بلاد الحجاز وتهامة واليمن، وربما في بلاد فارس وفي بلاد الروم، لكن الآن اسم محمد صلى الله عليه وسلم يتردد في الآفاق في المشارق والمغارب بالليل والنهار، في كل أرض وتحت كل سماء يوجد هناك من يشهد أن محمداً رسول الله، ومن يحب محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصلي عليه بالليل والنهار، والواحد منهم غاية أمنيته ومنتهى أمله أن يكرمه الله بزيارة قبر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكرمه الله يوم القيامة بالاجتماع بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي رحمه الله: وقد دلت الآية على أن بغض رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر، وهذا لا شك فيه، فمن أبغض النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر عدو لله، وبالمقابل دلت الآية على أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أمر واجب، وأنه من الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام -والحديث في الصحيحين من رواية أنس -: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، والحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)، وهذه المرتبة حققها الصحابة الكرام، فمثلاً امرأة خرجت في غزوة أحد بعدما انجلى غبار المعركة، فكانت تمضي في الطريق نحو الميدان فمرت بقتيل فنعي إليها، قيل لها: هذا أبوك، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير يا أم فلان! هو أمامك تلقينه، فمشت فمرت بقتيل فنعي إليها أخوها، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم سألت ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو أمامك يا أم فلان! فمضت فمرت بقتيل، فنعي إليها زوجها، ثم مرت بقتيل فنعي إليها ولدها، إلى أن وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظرت إليه واطمأنت عليه، قالت: يا رسول الله! كل مصيبة بعدك جلل، والله! ما أبالي إذ سلمت بمن عطب، يعني: طالما أنك سالم فلا أبالي بمن هلك سواء كان الأب أو الأخ أو الزوج أو الولد، المهم أن تسلم أنت يا رسول الله! فهذه الدرجة من المحبة هي التي حققها الصحابة الكرام حتى قال بعض الكفار: لقد أتيت كسرى وقيصر فما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم-، والله! ما تنخم نخامة إلا تلقوها بأيديهم، فدلك بها أحدهم وجهه وجلده، ولا توضأ وضوءاً إلا اقتتلوا على وضوئه -صلى الله عليه وسلم-، هذا كان حال الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام.