قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً من المسجد الحرام، والعاص بن وائل السهمي داخلاً إليه فوقفا عند الباب يتحدثان، وكان في المسجد الحرام بعض صناديد قريش، ثم افترقا، فلما دخل العاص بن وائل قال له المشركون: مع من كنت تتحدث؟ فقال الخبيث: مع هذا الأبتر -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثم قال لهم مطمئناً: لا عليكم، فإنه أبتر إن هلك هلك ذكره، ليس هناك من يحمل اسمه، ويقوم بدعوته من بعده، وظن المسكين أن القضية قضية وراثة يأخذها الأبناء عن الآباء، فإذا لم يكن للآباء أبناء فقد انقطع الأمر وذهبت الدعوة، وكانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت ولده عبد الله وقبله موت ولده القاسم ققالوا: إن محمداً أبتر.
يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعاً، يعني بذلك رحمه الله: أن هذه الدعاية كانت تجد لها رواجاً في البيئة العربية التي تتفاخر بكثرة الأولاد، وكانت هذه الوخزة اللئيمة تجد لها هوى وصدى في قلوب أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وشانئيه، ولربما أصابه من ذلك شيء من الضيق والغم صلوات الله وسلامه عليه، فجاءت هذه السورة على قلبه بالروح والندى، جاءت لتغسل عنه كل هم وكل غم وكل ضيق، وقد فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنهما قال: (بينا نحن في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، إذ رفع رأسه إلى السماء ثم أغفى إغفاءة ثم تبسم، فقلنا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: لقد نزل علي سورة آنفاً، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] إلى آخر السورة، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنه نهر في الجنة، وعدنيه ربي عليه خير كثير ترده أمتي فيختلج الرجل منهم، فأقول: يا رب! إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدث بعدك).
وفي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا أسير في الجنة أتيت على نهر حافتاه قباب الدر المجوف، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ فقال: هذا هو الكوثر الذي أعطاك ربك).
ومجموع الروايات تذكر بأن هذا نهر في الجنة، عدد آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، نسأل الله أن يجعلنا منهم.