كان سبب هذا النزول من جبريل عليه السلام أن الصحابة تشوقوا لرجلٍ عاقل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يستمعون ليستفيدوا من الإجابة؛ لأن الناس في عهده صلى الله عليه وسلم أمروا بالتقليل من الأسئلة، يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101]
فالسبب: أن الله سبحانه وتعالى منع الصحابة أن يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوقت وقت تشريع، فكلما سألوا عن شيء أحرامٌ ذاك؟ يمكن أن يقول: حرام؛ لأن وقت التشريع ووقت النزول ليس من المصلحة فيه كثرة الأسئلة، حتى لا تقع الأمة فيما وقع فيه بنو إسرائيل، فإن الله عز وجل أمرهم على لسان موسى عليه السلام أن يذبحوا بقرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[لو أخذوا بقرة فذبحوها لأجزأتهم، لكن قالوا: ما هي؟ فأخبرهم، فلو أخذوا على هذا الخبر لأجزأتهم، فقالوا: ما لونها؟ فلما أخبرهم باللون عادوا مرة ثالثة فقالوا: ما هي؟ فشددوا فشدد الله عليهم، حتى ما وجدوها إلا بملء جلدها ذهباً؛ لأنها كانت فريدة في زمانها]] هذه البقرة أوصافها فريدة فما وجدوها إلا بعد كلفة.
قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: {كان يعجبنا الرجل العاقل يأتي من البادية، فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع}.
وقال أنس: الرجل العاقل: يخرج غيره، لأن بعض الأعراب سألوا أسئلة ضيعت الوقت على الرسول صلى الله عليه وسلم، وضيعت كذلك أوقات الصحابة، جاء رجلٌ من الأعراب -كما يروي أهل السير وأهل الحديث- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن كان هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فسوف يخبرني أين ناقتي، فربط ناقته في وادٍ من الوديان، وأتى فقال: يا رسول الله! أين ناقتي؟ فقال عمر: ثكلتك أمك وما دخل رسول صلى الله عليه وسلم بناقتك، فأجلسه صلى الله عليه وسلم واستحيا منه.
وجاء رجل من الأعراب فقال: يا رسول الله! ما هذا الدجال الذي تذكره في صلاة الجمعة؟ قال: {رجل يفتن الله سبحانه وتعالى به الناس به، وعنده جنةٌ ونار، وعنده ثريد -والثريد هذا لحمٌ وخبز يغر الناس به فيأكلون منه- قال الأعرابي: فماذا يفعل إذا أكلنا من ثريده؟ قال: يغريكم يقول: هذه جنة وهذه نار، فناره الجنة، وجنته نار قال الأعرابي: والله لآكلن من ثريده حتى أشبع وأتضلع ثم أكفر بجنته وبناره، فضحك صلى الله عليه وسلم}.
يقول عليه الصلاة والسلام لأحدهم: {ماذا تقول يا فلان في آخر التحيات قبل أن تسلم؟ قال: أسأل الله الجنة وأستعيذ بالله من النار، وأما دندنتك ودندنة معاذ فلا أعرفها، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا حولها ندندن}.
وأنتم تعرفون أن أهل العلم يوردون في باب سماحته صلى الله عليه وسلم، وتحمله للسائل حديث أنس قال: {كنا جلوسٌ معه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأتى رجل فدخل، فتخطى رقاب الناس حتى جلس بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ما لبث أن قام، فاستعرض المسجد، فبال في طرف المسجد، فقمنا عليه لنضربه، فقال صلى الله عليه وسلم: اتركوه ولا تزرموه، فلما انتهى قال صلى الله عليه وسلم: علي بدلو من ماء، فأتي بدلو من ماء، ودعا صلى الله عليه وسلم الرجل، فأجلسه بجانبه، ووضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفيه ليستأنس، ولئلا يخاف ويستوحش منه صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن} فتوضأ الرجل كما أمره صلى الله عليه وسلم، ثم قام يصلي، فقام في الصف الأول وراء النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فلما أوشك صلى الله عليه وسلم أن يسلم رفع هذا الدعاء وقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً، فسلم صلى الله عليه وسلم ثم التفت إلى الناس يتبسم عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو يدري أنه هذا؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يبهت الناس ويقول: يا فلان! لماذا قلت كذا؟ بل يقول صلى الله عليه وسلم: من القائل آنفاً كذا وكذا؟ فسكت الناس، فأعادها صلى الله عليه وسلم فقال: أنا يا رسول الله! -ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يعطيه جائزة- فقال: لقد حجرت واسعاً، أو تحجرت واسعاً، أو ضيقت واسعاً، فرحمة الله عز وجل وسعت السماوات والأرض، وأنت ضيقتها لي ولك، ثم قام هذا الرجل بعد أن علمه صلى الله عليه وسلم.
فتحمله صلى الله عليه وسلم مطلوبٌ منه، والسؤال هو: لماذا لم يرد صلى الله عليه وسلم هذه الأسئلة التافهة ويرفضها من أول الطريق؟ لأنه لو رفضها عليه أفضل الصلاة والسلام لارتد هؤلاء؛ فكان يريد أن يتألف قلوبهم، والله يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] لو قال صلى الله عليه وسلم: أنا لا أجيب على هذا السؤال، أو ما هذا السؤال التافه؟ يمكن أن يرتد الإعرابي، ولا يسلم أبداً.
ولذلك أتى إعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث مع الصحابة، فقال: {يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك؛ لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فتبسم صلى الله عليه وسلم وتغيرت وجوه الصحابة، فأرادوا أن يبطشوا به، فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه، ثم أخذه صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وأدخله بيتاً فيه تمر وزبيب وقال: خذ من هذا ما أردت، قال: جزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيراً، قال: أوما أجملت معك؟ قال: جزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا، قال إذا خرجت أنا وأنت عند أصحابي فقل لهم هذا الكلام حتى يرضوا عنك؛ فإنهم وجدوا عليك في أنفسهم، فلما خرج به صلى الله عليه وسلم قال: يا فلان أأجملت معك وأحسنت؟ قال: نعم.
فجزاك الله عن أهلٍ وعشيرة خيراً، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: إن مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي كرجلٍ كانت له دابة فنفرت، فأتى الناس يلحقونها، فما يزيدونها إلا نفاراً، فقال صاحبها: خلوا بيني وبين دابتي، ثم أخذ من حشائش الأرض -يعني من برسيم الأرض أو من خضرة الأرض- فأخذ يلوح للدابة حتى جاءت فأمسكها، فلو تركتكم وهذا لطردتموه، ثم عاد كافراً، ودخل النار} فأعطاه صلى الله عليه وسلم وأدخله في هذا الدين.