هنا سمو في طلب العلم: سافر جابر بن عبد الله شهراً كاملاً بِجَمَل إلى العريش، مدينة بـ مصر، فلما وصل هناك طرق على عبد الله بن أنيس الباب، وعبد الله بن أنيس هو الذي قتل خالد بن سفيان المشرك، فأعطاه صلى الله عليه وسلم عصاً، وقال له: {توكأ بها في الجنة، فالمتوكئون بالعصي في الجنة قليل} وأُدْخِلَت عصاه معه في قبره وسوف يُبعث في العرصات وعصاته معه، يقول: لبيك اللهم لبيك، وسوف يحضر الزحام عند الصحف والميزان والصراط وعصاته معه، ويدخل بها الجنة يتوكأ بها.
طرق عليه جابر بيتَه في مصر فخرج الصحابي لـ جابر بن عبد الله فسأله عن حديث الحوض؟ فأخبره، وقال: ادخل، وتفضل، حيهلاً بك وسهلاً، قال جابر: رحلتي إلى الله، والله لا أجلس أبداً وأعود، فمشى شهراً وعاد شهراً، غدوُّه شهر، ورواحُه شهر.
وموسى ضرب أروع الأمثلة في طلب العلم وهو نبي معصوم يُوحى إليه {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60].
يقول الزمخشري المعتزلي، لكن أنت حوِّلها إلى سُنِّية سلفية هادية، يقول:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي من وصل غانية وطيب عناقِ
في قصيدة ماتعة، يقول: لأن أسهر مع الأوراق ومع الكتب أحسن عندي من أن أُعانق امرأة جميلة، أو أخلو بجارية جميلة حلَّت، وإن تاقت نفسي.
فالسني خلوته مع صحيح البخاري وصحيح مسلم أحسن من ملك الدنيا جميعاً.
طلب شريك العلمَ أربعين سنة، قال: طلبتُ العلم والله ما كان زادي في اليوم إلا كسرة خبز، فحضر في مجلس فيه وزير عباسي، والوزير قد غاص في الركايا والكنبات والطنافس، فأتى شريك بحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الوزير: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24] قال له شريك وكان سريع البديهة: من أين تسمع بهذا وأنت تأكل الخبيص، وتجلس على الطنافس، وتغنيك الجواري؟!
وهذا ليس من طريق أهل المعالي.
وشريك سريع البديهة! يقول لأحد خلفاء بني العباس، وقد عرَّض به الخليفة بقوله: أنت تحب علياً؟ قال: أُحبه حتى النخاع أو الدماغ أو كما قال.
قال: أُوَّاه من يوم عليك، أظنك زنديقاً؛ لأن المهدي إذا أراد نسف رأس رجل، أو جعله كأنه مخلوق بلا رأس، أو إعدامه بالمقصلة، قال: أنت زنديق.
قال: الزنديق له ثلاث علامات قال: ما هي؟
قال:
-يترك صلاة الجماعة.
-ويشرب النبيذ.
-ويستمع الجواري.
يقصده، قال: كأنك تعرِّض بي! أي: تلمِّح، قال: لا أُعرِّض بك بل أقصدك.
هذا من فقهيات شريك رحمه الله.
يقول ابن عبد البر عن نفسه: "مكثت مع كتاب التمهيد ثلاثين سنة".
اسمعوا الصبر يا أهل الصبر! ثلاثون سنة مع الكتاب، يكتبه ينسخه، يشرحه، ثم يقول:
سميرُ فؤادي من ثلاثين حِجة وصيقل ذهني والمفرج عن همي
إلى آخر ما قال.
وقد نظَمت أربعة أبيات من باب التشبه كما يفعل الكتكوت أو الفرُّوخ الصغير من الدِّيَكة، إذا سمع ديكاً كبيراً يصيح فيقلده، فسامحونا على جهدنا وطاقتنا وضعفنا، فقد قلت قصيدة أكثر من مائتي بيت، هي مذكرة للحياة اسمها: (يوم يغني الدمع) قلت:
ثلاثون عاماً والكتاب مرافقي وقد صانني عن كل لهو وغفلةِ
طبعاً كلكم يقرأ مثلما أقرأ، لكن الشاعر لا بد أن يقول كلاماً:
ثلاثون عاماً والكتاب مرافقي وقد صانني عن كل لهو وغفلةِ
ثلاثون عاماًَ والدفاتر صحبتي وأُنسي دواتي واليراع مطيتي
ثلاثون عاماً كلما قلتُ قد كفى لأرتاح في داري وأحصو معيشتي
أبت همتي إلا صعوداً إلى العُلا إذا انهد جسمي صار في القلب قوتي
فاحسبوها مزاحاً إن شئتم، ومَن أحْسَنَ بنا الظن فليَعُدَّها جِدَّاً.