قال عليه أفضل الصلاة والسلام: {مرحباً بالقوم}.
وهذا يؤخذ منه: أن من الألفاظ: مرحباً، ومنها: أهلاً وسهلاً، ومنها: حيهلاً بكم، وقال الإمام البخاري في كتاب الأدب المفرد: دخل عدي بن حاتم على عمر فقال: [[حيَّاك الله من معرفة]] والرسول صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- كان يغتسل بعد أن فتح الله عليه مكة وفاطمة تستره بثوب، فدخلت عليه ابنة عمه أم هانئ، قال: من هذه؟ قالوا أوقالت أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ؟ وهو يغتسل صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يرحب بالناس.
يقول عمرو بن العاص: وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآني هش وبش في وجهي؛ وقال: مرحباً حيهلا، أهلاً وسهلاً بك.
فمن ألفاظ التحية أن ترحب وأن تكثر الترحاب، لأنه مما يؤنس الضيف إذا دخل، ولو لم يأتِ هناك قرىً ولا غداء ولا عشاء ولكن يكفي أنك ترحب، ولعل الله أن يسهل، وابن الزبير سأله سائل فقال: ما هو الفرج بعد الشدة؟
قال: أن تعزم الضيف، فيقول: إني صائم.
فقد يكون هذا الضيف صائماً، فأنت ترحب ولا تخسر شيئاً، لا عشرة ولا خمسة، إنما ترحب ترحيباً كبيراً، والله عز وجل: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38].
قال: {مرحباً بالقوم -أو بالوفد شك الراوي- غير خزايا ولا ندامى} أما خزايا: فجمع خزيان، أي: أنكم مرحباً بكم، لا تعودون إن شاء الله من عندنا وقد أصابكم خزي أو عار.
وأما الندامى: فجمع نادم، وقال أهل العلم: جمع ندمان وفيه خلاف ولا يهمنا هذا، إنما يقول صلى الله عليه وسلم: لا تخزون في مسيركم ولا يصيبكم وصمة عار ولا ذم ولا تندمون إن شاء الله من قراكم معنا.
قال: {مرحباً بالقوم -أو الوفد- غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام} هم في الأحساء فقالوا: لا نستطيع أن نأتيك من هناك إلى هنا إلا في الشهر الحرام؛ لأن العرب كانت تتقاتل إلا في الأشهر الحرم فترفع السيف، فقريش ومن معها من العرب كانوا إذا أرادوا أن يقتلوا رجلاً من العرب قد قتل منهم قتيلاً أخروا الشهر الحرام، قالوا: نترك الشهر المحرم إلى صفر ونقتله إن شاء الله؛ فيأتي ويظن أنه في الشهر الحرام، فإذا وصل مكة قتلوه، فإذا سألهم الناس؟
قالوا: لقد أخرناه، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة:37] ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] فهذه الأربع حدَّدها الله؛ لئلا يقتل العرب بعضهم بعضاً فيها ويؤخرونها، ثم أتى الله بالإسلام فرفع السيف والقتل والدم عن الأمة.
قالوا: {إنَّ بيننا وبينك مُضر} أي: أنهم يقتلوننا.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان إما أن يأتيه الوفود جماعة وإما أن يأتوه فرداً فرداً.
بعض الناس يأتيه وحده فيُكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ويكلمه، إلا بعض القبائل وهي القبائل العظيمة في العرب فإنها تأتيه جُملة، أو ترسل إليه.
يقول أهل السير: إن السبب في ذلك أن بعض القبائل ترفع رءوسها؛ لأن عندها نخوة وعجباً وكبراً، فما ترى أن ترسل واحداً، وأكبر قبيلة من قبائل العرب هي قبيلة: بني تميم، وهم أكثر قبيلة يقولون: كالذر، فلما أرادوا أن يرسلوا وفداً من وفودهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا فعلوا: اجتمعوا وهم في البادية وفي الحاضرة، فاجتمعوا عند شيخهم ورئيسهم قيس بن عاصم المنقري حليم العرب، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: {أنت سيد أهل الوبر}.
فقالوا: نريد أن نرسل وفداً منا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال قيس بن عاصم: أعطوني أشعر شاعر في بني تميم، فقالوا: الزبرقان بن بدر، قالوا: أعطوني أشجع رجل عندكم؟ قالوا: عطارد بن حاجب بن زرارة، فقال: أعطوني أخطب خطيب؟ فقالوا: عمرو بن الأهتم، قال: وأنا أظن أني أحلم حليم في العرب فقام هو.
فلما اجتمع الوفد فإذا هم سبعة أو ثمانية، فأخذوا حُلَّة من أحسن الحلل، شروها بثمانين ناقة من كسرى أو من حاشيته، وأتوا بهذه الحُلة إلى رسول الله ودخلوا، فاستقبلهم الرسول صلى الله عليه وسلم استقبالاً حافلاً، وجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار.
فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم فاستعرض الوفد! فقال: من هذا؟
قالوا: قيس بن عاصم المنقري، قال صلى الله عليه وسلم: {أنت سيد أهل الوبر، وأنت حليم العرب} ثم أخبروه صلى الله عليه وسلم بالوفد جمعياً.
وفي إحدى المرات قال قيس بن عاصم: {يا رسول الله! رق عظمي -عمره سبعون سنة- ودنا أجلي، وشاب رأسي، فأوصني بوصية جامعة، فقال: يا قيس! إن مع الغنى فقراً، وإن مع القوة ضعفاً، وإن مع العزة ذلة، وإن مع الحياة موتاً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، وإن معك كريماً يدفن معك وأنت ميت، وتدفن معه وهو حي وهو عملك، فأقلل منه وأكثر} فبكى قيس بن عاصم.
ثم قال: يا رسول الله! نريد أن نناظرك -والمناظرة عند العرب أي: المغالبة- قبل أن نسلم -قبل أن يُسلموا يريدون أن يروا من الذي يغلب- فقال: بماذا تغالبوني؟ قالوا: عندنا شاعر وخطيب، فنريد أن تظهر لنا شاعرك وخطيبك، فهذه كانت من عادة العرب إذا وفد أناس عند أناس -أي: مثل المصارعة والكرة، فريق وفريق، منتخب ومنتخب- فقال صلى الله عليه وسلم: على الرحب والسعة عليّ بـ حسان بن ثابت وحسان صاحب اختصاص أعطا القوس باريها! فأتى حسان بن ثابت، فقال: ما تريد بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟! قال: قدم وفد بني تميم وعندهم شاعرهم، يريد أن يغالبنا فرد عليهم ثم قال: علي بـ ثابت بن قيس بن شماس، خطيب العرب وخطيب الأنصار، كأنه الصواعق، فأتى صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنت؟ قال: يا رسول الله! دعهم لي، فجمع صلى الله عليه وسلم الناس فاجتمعوا حتى أصبحوا على الشرفات وفي المسجد وعلى البيوت وعلى السكك، وقال: ليقم شاعركم، فقام الزبرقان بن بدر، فقال:
نحن الملوك فلا حي يغالبنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
فقال قصيدة ما يقارب الخمسين بيتاً، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى حسان فقام حسان وهو لم يعد لها من قبل ولم يكتب ولم يُفكِّر، قال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبعُ
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
إلى أن قال في آخرها:
كأنهم في الوغى والموت مكتنع أسد بحلية في أرساغها فدع
فالتفتوا وقد سال العرق من وجوههم، وقالوا: غلب شاعرك شاعرنا! صدقوا، لأن ذاك أعد للشعر من قبل، وهذا إجحاف، وهذا أتى بخمسين، وهذا أتى بما يقارب الثمانين.
فقام خطيبهم عمرو بن الأهتم، وقيل: عطارد بن حاجب فتكلم بكلام من أعجب الكلام! مدح فيه قومه، فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا ثابت! فقام ثابت فألقى عليهم كلاماً كالصواعق فدمغهم، فقالوا: غلب شاعرك شاعرنا، وخطيبك خطيبنا، فأسلموا.
فكان صلى الله عليه وسلم يتبسم إلى الناس وينزل الناس منازلهم، ولأنه عليه الصلاة والسلام أمر بلين الجانب ولو أنه قال: ليس عندي مغالبة ولا مفاخرة؛ لرجعوا وتركوا الإسلام، لكن يقول الله عز وجل فيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].