قال الإمام البخاري: باب: قوله صلى الله عليه وسلم: ليت كذا وكذا.
ليت هنا للتمني، وتحمل معنى: الترجي، والحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرق النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال: {ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، إذ سمعنا صوت السلاح، قال: من هذا؟ قال سعد: يا رسول الله! جئت أحرسك، فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه} قال أبو عبد الله: وقالت عائشة: قال بلال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إدخر وجليل
فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم.
في الحديث قضايا: أرق: أي أصابه الأرق وهو: السهاد ونفران النوم عن النائم.
قال المتنبي:
أرق على أرق ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق
وسكن نابغة ذبيان بدار العرب، فقال:
فبت كأن العائدات تركن لي فراشاً به يغلو فراشي ويقشب
حلفت يميناً غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
والمقصود: أن الأرق هو شيء ينتاب الإنسان قبل نومه، يطرد النوم عنه ويُسمى عند بعضهم: بالسهاد.
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم المسهدا
فلما أرق صلى الله عليه وسلم وكان حول المدينة يسكن كثير من اليهود قتلة الأنبياء، قال: {يا ليت رجلاً صالحاً} -أي: أميناً- وقيل: إنه بعد الصباح دخل المدينة {يحرسني الليلة} ما هو الجمع بين هذا الحديث وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
قالوا: هذه الآية متأخرة عن الحديث، فلما نزلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ترك صلى الله عليه وسلم الحرس وبقي في رعاية الله عز وجل.
قال: "ليت" هي الشاهد، وهنا تمنى عليه الصلاة والسلام فدل على أن هذا جائز، ولك أن تتمنى الخير، أو أي أمر.
{ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، إذ سمعنا صوت السلاح} سعد لابس للسلاح متهيئ لحراسته صلى الله عليه وسلم، وسعد هو ابن أبي وقاص، وله منقبة أنه صالح؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: رجل صالح، بل هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وصاحب القادسية، وخال الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي فداه بأبيه وأمه يوم أحد.
{من هذا؟ قال: سعد يا رسول الله! جئت لأحرسك، فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه} والغطيط هو صوت يردده النائم.
قال أبو عبد الله، أي: البخاري.
وقالت عائشة قال بلال، لما هاجر بلال من مكة إلى المدينة، وأصيب بالحمى -والحمى تؤثر في الإنسان حتى في الكلام- فسألته عائشة رضي الله عنها فقالت: يا بلال! كيف تجدك؟
قال بلال رافعاً عقيرته وكان صوته جميلاً ندياً يسري إلى القلوب، ولذلك كان مؤذناً.
فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل تبدون لي شامة وطفيل
قال البخاري: فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت وسكوته إقرار، لأن بلال يقول: ألا ليت شعري، يقول بلال: يا ليتني بين أودية مكة، ولذلك حن الصحابة لـ مكة، فلما سمع صلى الله عليه وسلم هذه الأبيات، قال: اللهم إن إبراهيم دعا لـ مكة بالبركة، اللهم إني أدعو للمدينة في مدها وصاعها بالبركة، اللهم اجعل ضعفي ما جعلته من البركة في مكة في المدينة، اللهم انقل حمى المدينة إلى ذي الجحفة، فانتقلت الحمى هناك.
وهذه الأبيات أرق وألطف ما سمع في الأدب العربي، وليست لـ بلال وإنما هي لشاعر جاهلي، تأخر على بابه وجيرانه وخلانه فبدى على جبل في مكة فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل تبدون لي شامة وطفيل
الإذخر: شجر، والجليل: قيل شجر وقيل ثمر، ولكن كأنه جبل.
وهل أردن يوماً مياه مجنة: مجنة سوق من أسواق العرب في مكة.
وهل تبدون لي شامة -جبل- وطفيل -جبل آخر- وهذا من الحنين إلى الديار، وهذا من أحسن ما ذكرته العرب، قال الأصمعي: أبكت العرب في شعرها العجوز على شبابها.
انتهينا من شاهد البخاري أنه يجوز استخدام "ليت"، فلك أن تقول: ليت فلاناً أتانا هذه الليلة، وليت ابني ذاكر هذه الليلة، وليتنا قرأنا شيئاً من القرآن، هذا جائز، ولم ينازع فيه العلماء كما نازعوا في "لو" التي مرت معنا.