من خصائص الإسلام أنه يربط الجيل بعلمائه قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
ومن خصائص الإسلام أنه لا يصلح حال الأمة، حتى يتولى الريادة والصدارة فيها ورثة محمد صلى الله عليه وسلم في شريعته ومنهجه.
والأمة قصرت من جانبين: التقصير الأول: من جانب الجيل، أنه تخلى في بعض الفترات أو أحياناً عن الثقة بأهل العلم، وأهل العلم ليسوا بمعصومين، فقد يخطئون ويؤجرون على أخطائهم، هذا إذا كان عن اجتهاد وقصدوا الحق، والرسول عليه الصلاة والسلام، قال في الصحيح: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فيظن بعض الناس، أن العالم لا بد أن يكون معصوماً، ولا يخطئ أبداً ولا يهم ولا ينسى، وهذا خطأ، فإنه قد يتأول , وأدلكم على كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لتعرفوا بعض أسباب أخطاء بعض العلماء.
الثاني: قد يكون هناك تقصير من بعض أهل العلم والدعاة كألا ينزل إلى الشباب، وميزة علماء الإسلام أنهم علماء عامة، كما يقول محمد أحمد الراشد في المنطلق، وصدق رفع الله منزلته يقول: من ميزة علماء الإسلام أنهم علماء عامة، تبحث عن الإمام أحمد فتجده في السكة والشارع، وتجده في المسجد، وفي السوق يخالط الناس، أما علماء الشرق والغرب من الأمم الأخرى، فهم علماء مكيفات، يتصلون بالأمة من تحت المكيفات ولا يتصل بهم إلا بواسطة مذكرات ومؤلفات، أما علماء الأمة، فمع الجيل والشباب، يذهب معهم ويأتي، وما عهد في علماء الإسلام إلا أن أحدهم أحياناً قد يأكل مع تلاميذه ويتغدى مع تلاميذه، وينام مع تلاميذه، وبيته مفتوح للخارج والداخل، ليعيش هموم الأمة وهموم الجيل، وهذه مسائل يجب التنبيه عليها كثيراً.
إن هذه الميزة هي التي أكسبت الإمام أحمد مكانة في أهل السنة، بينما علماء المبتدعة علماء خاصة، أحمد بن أبي دؤاد، أحمد المعتزلة، وأحمدنا أحمد بن حنبل.
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
ولا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم
أحمد بن أبي دؤاد يجلس مع السلطان ولا يخرج إلى الناس، ولا يأذن لأحد ولا يتصل بأحد، أما الإمام أحمد بن حنبل فتأخذ الجارية بيده إلى السوق، والطفل يكلمه.
حمل مرة حطباً في السوق، فأتاه الوزير الفتح بن خاقان، فقال: أنا أحمل عنك يا أبا عبد الله، فقال: لا.
نحن قوم مساكين لولا الستر لافتضحنا.
فهذا الذي يحمل الحطب، حمل الأمة في فتنة القول بخلق القرآن، لقد شيعه أكثر من مائة ألف، حتى أعلنت حالة الطوارئ في بغداد وخرج جيش الخلافة، يحبس الطرق والمنافذ ومعهم العصي، ومعهم الأسلاك بأيديهم يضبطون حركة الناس، دخل الناس يتوضئون في الضحى ولم ينتهوا من الوضوء إلا في صلاة العصر.
وابن تيمية عالم عابد، أتدري ما هو برنامجه اليومي؟ يصلي الفجر في المسجد ويبقى إلى طلوع الشمس، فيدرس إلى الضحى وينزل إلى السوق، ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويدخل على البقالين أهل الحوانيت، ويوم الخميس يزور ابن تيمية المارستان، وهم المجانين، ويسلم عليهم ويدعو الله لهم، ويقرأ عليهم القرآن، ثم يزور المستشفى، ثم يزور المقبرة، فلما مات هذا العالم، شيع جنازته أكثر من مائة ألف، وشيع جنازته من النساء ستون ألفاً، وخرج نائب السلطنة، ومن أراد منكم أن يقرأ فليقرأ في البداية والنهاية لـ ابن كثير وليقرأ ما كتب عن حشد جنازته الرهيبة، ويقرأ عن حياته رضي الله عنه وأرضاه.
مقصودي بهذا أن الأمة بحاجة إلى العلماء الذين يعيشون معهم، يعيشون مع البائع، والتاجر، والمهندس والفلاح، وفي كل مجال تجد الداعية والعالم يتنقل بينهم، ولا بد أن يكون هذا الجسر ممدوداً بين العلماء والجيل، ويوم ينقطع هذا الجسر سوف تنكص الأمة على أم رأسها في الهاوية.