{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3].
ذكر الإيمان في القرآن بالفعل الماضي، وبالفعل المضارع، وبالصفة، وبالمدح وبالاشتقاق.
قال سبحانه عن المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9] وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] هذه الحياة الطيبة لا يدركها إلا المؤمنون، والحياة الطيبة هي مقصودة عند الناس جميعاً المؤمن والكافر، ويسمونها السعادة، وألفوا فيها كتب، وحاولوا اكتشافها، وبحث عنها علماء الجيولوجيا في الأرض مع المادة فما اكتشفوها، وبحثوا عنها في الهواء والماء فما وجدت، وكتبوا وسألوا وقالوا: من يريد الحياة الطيبة؟ من اكتشف لنا حياةً سعيدة؟ وأتى رجل منهم فألف كتاباً ثم نحر نفسه، وكثيرٌ من أغنيائهم جمعوا المال ثم نحروا أنفسهم بالسكاكين قالوا: من يجد لنا السعادة؟ والله يتكلم عن السعادة في آية {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] وهذه لا تكون إلا من صيدلية محمد عليه الصلاة والسلام يصفها ويصرفها هو، وأما غيرها فلا يمكن أن يكون.
كفرت بـ لينين وأذناب نهجه وآمنت بالرحمن والفوز مطلب
أنا قصة من بدر أرسلها الهدى محمد يرويها وجبريل يكتب
هذا سند خرج من محمد عليه الصلاة والسلام.
أنا قصة من بدر أرسلها الهدى محمد يرويها وجبريل يكتب
إذا ظمئ اللاهون للخمر والخنا فزمزم للأخيار ورد ومشرب
وإن سكروا للعود في ساعة الهوى طربت لذكر الله فهو المحبب
ومطلع هذه القصيدة:
هجرت الهوى لم تسب قلبي زينب وما هز أشجاني العزوف المطرب
ولم أتخذ خدناً جهولاً سرى به من الوهم ما يعمي القلوب ويقلب
له لذة في كل لهو ومشرب ولي في رحاب الله صحب ومركب
وهذه شعار المؤمن أنه لا يجد السعادة إلا في ذكر الله واتباع رسول الله، ومنهجية محمد عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن بعض الناس شربوا ماءنا واستنشقوا هواءنا كفروا بالله، ما حملوا ختم محمد عليه الصلاة والسلام، وما عرفوا السعادة في طريقه، ولكنهم اتبعوا استالين ولينين ففضحهم الله على رءوس الأشهاد، أصبح جنود استالين ولينين أول من يكفر به، وأول من يلعنه على المنابر، وأول من يحارب شرعته، وأول من يمزق مذكراته، فاعتبروا يا أولي الألباب.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
رمى بك الله ركنيها فمزقها ولو رمى بك غير الله لم يصب
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] كلمة: (وداً) ما يدركها إلا شعراء العرب، وكلمة (وداً) مختارة، ومستصفاة مثل إذا عصرت يقولون: رحيق المعصور، ولله المثل الأعلى، هذا الورد إذا عصر خرج منه مادة عصير المعصور الذي يستنشق منه الحب والميل والشغف ومنه الود، ولا يكون الود إلا للذين آمنوا.
سبحان من اصطفى المؤمنين بالود! {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] قيل في تفسيرها: وداً بين قلوب المؤمنين، فلا تجد المؤمن إلا محبوباً عند إخوانه، حتى يقول بعضهم: قد تجده مشوه الخلقة -إذا كان مستقيماً- لكنه محبوباً، وتجد الجميل الفاجر مبغوضاً في القلوب؛ لأن الحب موهبة يجعلها الله مع الماء البارد فيشربه الناس؛ حتى مع زمزم وأنت مع الإفطار تشرب حب الصالحين ولكن تشرب معهم بغض الكفار، كثير من الناس نحبهم؛ ما قدموا لنا نفعاً إنما نحبهم في الله، أي: استأسروا القلوب بحبهم؛ لأن الله جعل لهم وداً، والود منه، قال البخاري في كتاب: الأدب، باب: المقة من الله، أي: الحب منه سبحانه وتعالى.
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يقول شاعر في سلطان يمدحه:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسر ماذا والهوى لا يفسر
يقول: أنا أحبك ما أدري لماذا؟ قلنا له: أنت تحب بشراً، وتحب فاجراً، وتحب ظالماً، أما نحن فنحب الله لأمور: منها: أنه ربانا بالنعم، ومنها: أنه أحاطنا، ومنها: أنه يستحق أن يحب، ومنها: أنه عرض حبه في كل الكائنات.
يقول:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسر ماذا والهوى لا يفسر
تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا وما كنت عن وعد الهوى تتأخر
ظمئنا وفكّرنا وشاقت دموعنا وشاخت ليالينا وما كنت تحضر
يقولون لـ ابن تيمية: هل الآيات مما يحب به إلى الله؟ أو سؤال نحو هذه العبارة كما في روضة المحبين.
قال: نعم.
ثم يذكرون عنه البيت المشهور أنه كان يبكي ويقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خالياً
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] وفي السماء، وفي الأرض، وفي الماء حب الله عز وجل.
{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] والمعنى الثاني وكأنه الصحيح: يجعل بينهم وبينه وداً سبحانه وتعالى، وهذه والله الشرف العظيم، الناس الآن يتزلفون إلى البشر ليحبوهم، يخدم البشر ويقدم له حذاؤه ويقبل يديه حتى يكون من الخدم، وأنت يحبك الله عز وجل ويقول: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] يقول ابن القيم: ليس العجب من قوله: يحبونه، هذا مطلوب ولكن يحبهم عجيب! {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وهذه وثيقة لا ينالها إلا أهل الإيمان.
وقال سبحانه وتعالى في نداء التشريف ولا ينادي إلا أهل الشرق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] وهذا نداء التشريف؛ يا رجل! تشرفه، يقول أحدهم يمدح:
في ندائي ناديت كل الرجال
أنت رنحت بالعباءة عطفيه ورصعت رأسه بعقال
فهذا النداء للتشريف، ينادي به الله عباده.