أيها الإخوة الفضلاء! ومن طموحات هؤلاء الشباب دخول الجنة، نسأل الله لنا ولكم الجنة، وهى أعظم ما بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، خلافاً لـ أهل التصوف الكاذبين, الذين يرون أن هناك مطلباً أعلى من دخول الجنة, ويرون أنهم لا يعملون للجنة, وأن العامل لا ينبغي أن يعمل من أجل الجنة, يقولون: أجير السوء إذا أعطاه سيده أجرة عمل, وإلا لم يعمل، ويقول أحدهم: والله ما عبدت الله طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره, ولكن ليرضى عني, وقال أحدهم: وهو يقرأ قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] والله يخاطب أهل أحد , من يريد الدنيا هم أهل الغنائم, ومن يريد الآخرة هم الشهداء الذين تركوا الغنائم, فصفق بيديه هذا الصوفي وقال: الله أكبر! فأين الذين يريدون الله؟! يعني ما من الصحابة أحد يريدون الله، وهو فقط في صومعته وفي جهله وفي تخلفه يريد الله.
الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة مني الصحابة بالجنة, قال له الأنصار: يا رسول الله على ماذا تبايعنا؟ قال: على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم, وأطفالكم, وأموالكم, قال ابن رواحة: يا رسول الله؛ فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة, فقام من مجلسه وقال: ربح البيع والله لا نقيل ولا نستقيل.
قال ابن القيم معلقاً: والبيعان بالخيار إن لم يفترقا، فإذا تفرقا وجب البيع.
طولب ابن رواحة بالبينة: ما هي بينتك؟ وأنت قد خرجت من مجلس العقد, وقد سمعت من رب العالمين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّه} [التوبة:111] فطولب بالبينة فتقدم في غزوة مؤتة , وأخذ الصحابة يقولون: رويدك يـ ابن رواحة! فيقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم باعها من الله, والله اشترى، وذهبت روحه إلى الحي القيوم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:26 - 29].
وقال ابن هشام في السيرة، وابن كثير وغيرهما: وقف النبي صلى الله عليه وسلم يعلن الحرب يوم الجمعة على أبي سفيان لأنه هدد أمن المدينة , واجتاح أطرافها، وأراد دخولها قبل المعركة بيوم أو يومين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: ماذا ترون أين نقاتلهم؟ قال كبار الصحابة: في المدينة، يقول اللواء الركن/ محمود شيت خطاب: وهو الرأي السديد؛ فإن حرب المدن دائماً في صالح المدافع على المهاجم؛ وأقر صلى الله عليه وسلم ذلك، وخرج ثلة من أصحابه من الشباب من آخر المسجد يكبرون وينشدون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
ويقول عمرو بن سالم: {يا رسول الله اخرج بنا إلى أحد , لا تمنعني دخول الجنة, والله لأدخلن الجنة, فيقول صلى الله عليه وسلم: بم تدخل الجنة؟ قال: بخصلتين: بأني أحب الله ورسوله, ولا أفر يوم الزحف, قال: {إن تصدق الله يصدقك}.
وخرج بهم صلى الله عليه وسلم، فقدموا التضحيات الهائلة، التي لم يروها تاريخ، ولم تحفظ في كتاب, إلا في كتاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تروَ في قصة، ولم يسمع بها دهر, إنها والله تضحيات تقيم شعر الرأس، وتجعل الدم مواراً في الجسم, تضحيات لا تنسى أبداً.
يمد سيفه صلى الله عليه وسلم قبل المعركة فيقول: {من يأخذ هذا السيف؟ فرفعوا أياديهم قال: بحقه فنزلت الأيادي إلا يد أبي دجانة، قال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني} اسمع الشرط.
عهد أبي حفص الذي تبقى إن على أهل اللواء حقاً
أن تخضب الصعدة أو تندقا
قال: أنا آخذه يا رسول الله, فأخذه وأخرج عصابة الموت الحمراء, وهي تترجم (خطر ممنوع الاقتراب) وقال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت, فحان الموت, وأخذ أبو دجانة يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
ففلق به هام المشركين, وتقدم قتادة بن النعمان ليعلن من نفسه الصدق مع الله عز وجل, فضربت عينه ونزلت حتى تعلقت بعرق في خده -كما قال ابن القيم في زاد المعاد، وغيره من أهل العلم- وأتى بعينه يعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم, بالله هل بعد هذه التضحية تضحيات؟ فيردها صلى الله عليه وسلم إلى مكانها، فتكون أجمل من الأولى, ويفتخر ابنه ويقول عند عمر بن عبد العزيز:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فصارت على خير لأول حالها فيا حسنما كف ويا حسنما خد
ويتقدم حنظلة، ويقتل وهو جنب، ويغسل بين السماء والأرض في صحاف الذهب بماء المزن.
أملاك ربى بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا