رغم جلالة ابن عباس ومكانتة في الإسلام؛ فإنه كان يهاب عمر، وكان كبار الصحابة يهابون عمر بن الخطاب، ومن عادة الناس أنك إذا خالطت الإنسان كأبيك وأخيك ومعلمك دائماً أن تقل هيبته، لكن عمر بخلاف ذلك، يخالطه الصحابة دائماً في مجالسهم وفي منتدياتهم ومجتمعاتهم وما يزداد مع ذلك إلا هيبة، رضي الله عنه وأرضاه.
من مواصفات شخصيته أنها كانت قوية جداً، كان فيه شدة لكن في الحق، يقول ابن كثير: ما كان يضحك ولا يمزح، عمر في خلافته لا يضحك ولا يمزح أبداًَ، صارم كالسيف؛ ولذلك أرهب الله به أعداء الله من الإنس والجن، حتى الجن كانوا يخافون منه، وثبت في الحديث أنه صارع جنياً فصرعه على الأرض، قال عمر: [[كيف أنت في الجن؟ قال: لقد علم الجن أني من أقواهم]] لكن واجه رجلاً قوياً فصرعه.
وعمر حتى من حيث تكوينه الجسمي كان من أقوى وأعتى الناس، كان إذا مشى كأنه راكب على فرس.
وبعض الأمور والطرائف وضعها بعض أهل السير وما أظنها تثبت، لكن يذكر أن حلاقاً كان يحلق رأس عمر فعطس عمر فأغمي على الحلاق حتى رش بالماء، فكيف إذا تكلم عمر أو نهره!
وأنا سمعت من بعض الدعاة المفكرين يذكر في خطبته يقول: لما دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في القبر أيقظه المنكر والنكير -الفتان- ليسألاه، فلما استيقظ بدأ بهما وقال: من ربكما؟ من نبيكما؟ ما دينكما؟ لقوته رضي الله عنه وأرضاه.
فيذكر عن عمر رضي الله عنه وتركب عليه مثل هذه الدعابات؛ لأنه كان من القوة بمكان لا يعلمه إلا الله عز وجل.
تصور أن الهرمزان رسول إمبراطورية كسرى جاء يفاوض عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فيأتي في حشم وحاشية، يلبس الحرير والديباج، ومعه من الأكسية والذهب والفضة ما يريد أن يرعب به الأمة العربية، والبدوي إذا رأى شيئاً من ذهب ربما يصرع، أو رأى شيئاًَ من الفضة يغمى عليه؛ لأنهم لا يعرفون الفضة ولا الذهب، دائماً مع الغنم والإبل، ودائماً مع الخيام والثياب والسيوف المثلمة والرماح، في حياة بدائية.
أما أولئك فأهل حضارة، ولذلك هم يعدون الآن مثل أمريكا وروسيا، أنزلهم الله في النار جميعاً: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
فالمقصود أن الهرمزان اختاره الملك فقد كان ذكياً وصاحب هيبة، فدخل المدينة بالموكب، فأتى يسأل الناس: أين قصر الخليفة؟ عمر هذا الذي دوخ الدنيا، أخذت نساء فارس يسقطن الحمل من هيبته وهو في المدينة جالس على عباءته المرقعة وخبز الشعير أمامه والزيت معه، ليس عنده من الحرس ولا من الهيلمان والقصور شيء.
فيقول الهرمزان: أين قصر الخليفة؟ قال الصحابة: ليس له قصر.
قال: أين مجلس الشورى الذي يجتمع بالناس فيه؟ قالوا: ليس له مجلس شورى، بل في المسجد.
قال: دلوني على المسجد.
وأخذ يذهب معهم ويظن أنه سيلقى ناطحات سحاب أو قصوراً مثل قصور كسرى مطلية بالذهب.
فأخذ يسأل قالوا: في المسجد، فمر في سكك المدينة، وتخيل قرية صغيرة، بيوت الطين منها مبنية، طرقها متلاصقة ومتواضعة، حتى إذا مددت يدك لحقت السقف في كل بيت، لكن من هنا انبعثت (لا إله إلا الله) ومن هنا أتت حضارة الإنسان، ومن هنا رفعت راية لا إله إلا الله، ومن هنا أعيدت معالم البشرية مرة ثانية، ومن هنا خرج أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحسان والزبير وطلحة وزعماء الإسلام وأدباؤه وشعراؤه وعلماؤه.
فذهب إلى المسجد والناس وراءه، منظر عجيب! من هذا الذي يلبس هذا اللباس، والشمس تلمح مع الحرير والديباج والفضة، كلما ذهب في حارة ذهبوا معه في الطريق.
فدخل في المسجد والتفت وقال: أين عمر بن الخطاب؟ قالوا: ما وجدناه.
خليفة الدولة الإسلامية لا يوجد ويبحث عنه بالملاقيط؟! قالوا: ما وجدناه.
في الأخير، قال رجل: أبشركم، وجدت عمر بن الخطاب.
قالوا: أين؟
قال: نائم تحت شجرة في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهب الهرمزان وذهب وراءه الناس، وأتوا إلى عمر رضي الله عنه في آخر نومه قبل صلاة الظهر، فوقف على رأسه، وكان أهل فارس أهل عقول ودهاء؛ ولذلك يقول عمر: [[إن لأهل فارس عقولاً ملكوا بها الدنيا]].
انظر ما استهزأ بـ عمر، ولا سخر، ولا قال: هذا ملك وخليفة المسلمين في هذا الزي المقطع؟! لا، أخذ يرتعد، فيقول له الناس: ما لك؟ فيقول للترجمان وهو يشير إلى عمر: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، ولذلك حافظ إبراهيم شاعر وادي النيل في محفل في القاهرة حضره ألوف مؤلفة أتى بهذه الكلمات: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، يقول حافظ إبراهيم في أول القصيدة:
حسبي وحسب في حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
يا رب هب لي بياناً أستعين به على حقوق ديون نام قاضيها
إلى أن يقول:
قل للملوك تنحوا عن مراتبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
إلى أن يقول:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
يقول: ذهل واندهش صاحب كسرى لما أتى وعمر وهو صاحب الرعية عطلاً أي: أنه جالس بلا حلي وعليه ثوب ممزق.
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
لبسها من أول الخلافة إلى آخر الخلافة، ما خلعها إلا ولبس الأكفان بعدها، كان يرقعها كل يوم، تنشق من هنا فيرقعها من هنا والذهب والفضة تحت يديه! لكن أولئك قوم اختارهم الله للآخرة، قال:
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
وقام عمر رضي الله عنه وأرضاه وفاوضه، وما يزداد هذا إلا رعباً وخوفاً، أنزل الله الخوف والرعب فيه فهو يرتعد بجانب عمر، وقد كانت قوة الأرض مع أولئك؛ لكن قوة (لا إله إلا الله) مع عمر، فـ عمر بلا شك كان من أهيب الناس، الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس مع النساء؛ لأنه معلم ومربِ ولين وحكيم، وقد كان عمر حسنة من حسناته صلى الله عليه وسلم، بل هو ورقة من شجرته، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم مثل عمر في القوة والصرامة ما تعلم الناس كثيراً، ولا جلس معه الأطفال، ولا سألته النساء، لكن النبي هو معلم البشرية، فهو لين، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
{فجلس مع النساء، وأخذ بعض النساء يتمازحن في مجلسه صلى الله عليه وسلم، فلا إله إلا الله ما أبره! ولا إله إلا الله ما أرحمه وما أحلمه! ولكن فجأة جاء عمر بن الخطاب، فسمع النساء جلبة عمر فأخذن يتسابقن إلى الحجاب بعضهن تركب بعضاً! ودخل عمر، فقال: يا عدوات أنفسكن -وهذا في الصحيح- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تهبن منه (أو كما قال رضي الله عنه) لكن ردت امرأة عاقلة، قالت من وراء الحجاب: أنت فظ غليظ القلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم رحيم لين} أو كما قالت.
فهو صارم رضي الله عنه، فأخزى الله الشياطين من الجن والإنس بصرامته؛ لأنه لو كان ليناً وكان أبو بكر ليناً ما صلح اللين مع اللين، أبو بكر تولى بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة في مرحلة تستحق اللين سنتين وستة أشهر، لكن تمردت بعض القبائل وتمردت بعض الشعوب وبعض الدول، فأتى هذا الداهية العملاق يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {رأيت في المنام كأن أبا بكر أخذ الدلو فدلى دلوين أو ثلاثة وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت، فما رأيت عبقرياً يفري فريه} أو كما قال.