قال عمر: فتربع في مجلسه، فأراد عمر أن يدخل بالدعابة إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يتكلم معه.
بماذا يدخل من المزح حتى يتبسم صلى الله عليه وسلم؟ اسمع ماذا يقول فاروق الإسلام أبو حفص، الذي دكَّ دولة الباطل وإمبراطورية كسرى وقيصر، والذي كان كما يقول الأول:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
قال: يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال: لو رأيتنا كنا رجالاً -يقصد قريشاً- تخافنا النساء ونحن في بكة، فقدمنا إلى أناس في المدينة فوجدنا نساءهم تخيفهم، فأصبحنا نخاف النساء، لو رأيت بنت زيد -يقصد عاتكة زوجته- تطلبني النفقة يا رسول الله -رجل مهاجر فقير مسكين ليس عنده ما يتغدى منه ويتعشى، وهي تطلب الحلي الذهب والفضة- تطلبني النفقة يا رسول الله وتغاضبني؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، ثم جلس.
كان ذلك الكلام توطئة، فلما تبسَّم صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه.
انظر إلى الحكمة! وإلى الدخول إلى قلوب العظماء والزعماء والقادة!
فلما جلس قال: فنظرت فإذا أثر الحصير في جنبه صلى الله عليه وسلم.
قال: فلمحت المشربة، والله ما رأيت شيئاً يرد البصر إلا شيئاً من شعير كان معلقاً في جانب البيت، فدمعت عيناي.
من قال من المؤرخين: إن عين عمر سوف تدمع لولا الإسلام؟
ومن قال: إن قلبه سوف يرق لولا (لا إله إلا الله)
ومن قال: إن روحه سوف تلين برهة من الدهر لولا عظمة هذا الدين، كان لا يعرف الدمعة من الرحمة، ولا يعرف اللين، ولا المسامحة، إنه رجل عملاق؛ ولذلك جعلته قريش السفير لها مع قبائل العرب، فهو الواجهة العظمى التي لا تلين، وكان الناس يخافونه.
لكن لما دخلت لا إله إلا الله في هذا القلب الكبير؛ أصبح يتأثر تأثراً عظيماً، من يصدق أنه يصعد المنبر يوم الجمعة، فينقطع صوته من البكاء على المنبر؟!
ومن يصدق أنه يرى الأثر الذي يثير الخشية فيبكي؟!
فلما رأى حفنة الشعير ورأى الحصير يؤثر في جنب المصطفى صلى الله عليه وسلم، يا عجباً ألا يجد اللحم!
ألا يجد الخبز!
ألا يجد اللذائذ والطبيات، والفواكه والخضروات!!
فلماذا يجدها كسرى وقيصر؟!
وتدمع عيناه رضي الله عنه؛ فيلتفت صلى الله عليه وسلم ويقول: ما لك يـ ابن الخطاب؟
فقال عمر: يتنبأ بالأحداث، وأنه سوف يدكدك بقدميه تلك الدولتين الظالمتين- قال: يا رسول الله كسرى وقيصر وهما ما هما -أي: أعداء الله- وهما في العيش الرغيد، وأنت رسول الله وأحب الناس إلى الله، وأنت في هذا الحال! فجلس صلى الله عليه وسلم مستوفزاً، وقال: أفي شك أنت يـ ابن الخطاب؟ أي: أفي شك من عدل الله؟ أو في شك من ميزان الله في الأرض؟ أوفي شك من رسالة الله؟ أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم.