ثم جاء ابن تيمية رحمه الله في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع، وهذا الرجل أيقظ الله به الهمم، وأصلح الله به الشأن، وهو رجل لا كالرجال، هو عظيم من العظماء، ولا نغلو فيه، لكننا نتقرب إلى الله بحبه، أوتي أموراً قل أن تجتمع في الإنسان، منها ذكاء خارق وعبقرية فياضة مشرقة مطلقة، يقول: أقرأ المجلد الكامل مرة، فينتقش في ذهني حفظاً، تعجم عليه المسألة فيستغفر الله ألف مرة فيفتحها الله عليه.
قرأ كتب الفلاسفة ففهمها ورد عليها، وكان يؤلف المذكرة أو الكتاب من بين صلاة الظهر إلى العصر، فيقرأها الناس سنَةً فلا يفهمونها.
كان عمره ما يقارب الثلاثة والستين سنة، لم يتزوج ولو أن الزواج أفضل، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] لكن شغل ليله ونهاره وأوقاته في خدمة الإسلام.
أما ليله فجعله لله عز وجل، من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو بين تلاوة وتسبيح، ونوم قليل، وتهليل وقراءة قرآن.
أما نهاره فكان بين أمور، يجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله حتى يتعالى النهار، فيتنفل صلاة الضحى، ثم يتوزع في الحلقات يدرس الناس، ما بين تفسير، وفقه، وحديث، وعلوم أخرى، ثم ينزل إلى السوق، فيأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، فيسأل عن الأيتام والأرمل والمساكين، ثم ينطلق إلى (المارستان) وهو مستشفى الأمراض العقلية، فيسلم عليهم ويدعو لهم ويرقيهم، ثم يذهب إلى مستشفى المرضى -الأمراض العضوية- هناك حيث وضع السلاجقة، فيسلم عليهم ويدعو لهم، وربما وقف عليهم وبكى، ثم يعود ويمر بالمقبرة فيعود ويسلم ويزور أياماً بعد أيام.
كان إذا مر سلم عليه الناس؛ ودعا لهم، ودعوا له.
يقول البزار أحد تلاميذه: مررت بـ ابن تيمية فسأله فقير فلم يجد شيئاً فخلع له أحد ثوبيه، وكان عنده ثوبان، قال: ومررنا مرة أخرى فلم يجد ابن تيمية شيئاً إلا ثوباً واحداً، ولم يجد شيئاً غيره، فأخذ عمامته، وشقها نصفين، وأعطى الفقير نصفها.
كان يفسر القرآن كالبحر، مكث في سورة نوح ثلاثين سنة يفسرها، أخبرنا بعض طلبة العلم الثقات أنه يوجد في ألمانيا في مدينة بون تفسير لـ ابن تيمية يبلغ خمسمائة مجلد، فإن وصل فإنه العجب العجاب.
يطوي رجله ليرد على ثمانية أبيات ليهودي، فيرد عليها بما يقارب المائتين والثمانين بيتاً في جلسة واحدة.
يذكر الله فتكاد القلوب تنخلع من قوة ذكره، أوتي صحة في الجسم، وبراعة في القتال، قاتل التتار وكان يأخذ السيف ويضرب به، فكان فلال السيف وكسر السيف له دوي وحنين على رءوس الناس، هو رجل عملاق، مجاهد ومفتي ومعلم ومربي ومدرس وآمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر ومتصدق؛ رحم الله تلك العظام.
واجهته بدعة الاعتزال، فأتى عليها بمجموعة من القواعد فسحقها.
وأما بدعة الأشاعرة فقد أخذوا شيخ الإسلام وأخذهم حتى سجنه الأشاعرة، لكنه انتصر عليهم بمؤلفاته، ولو أن الأشاعرة أقرب الناس إلى السنة من غيرهم.
أتى إلى غلاة الصوفية فنازلهم وشكاهم إلى السلطان حتى جلدهم السلطان بالخيزران، ثم ألف كتباً واستتابهم، وقصَّ شعورهم بالمقص حتى نصر الله الإسلام على يديه.
طارد النصيرية في جبال كسروان، ودخل بالجيش عليهم حتى هدم بيوتهم على رءوسهم، وقال: حكمي فيهم أن يُصب السم في آبارهم، وأن تحرق أشجارهم، وأن تهدم بيوتهم.
أتى التتار فزحفوا من جنوب الصين ومن شرقها، ومن سيبيريا، فتصدى لهم وأفطر الناس في نهار رمضان ووافاهم في معركة شقحب، وأخذ يقول: والله لننتصرن اليوم، والله لننتصرن اليوم، فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله، فقال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فكان كما قال.
قال ابن كثير: وما أتى وقت العصر إلا وقد خرجت النساء والأطفال في دمشق يتباكون؛ لأن هذا سيل جارف إذا دخل دمشق فعل بها كما فعل بـ بغداد فسوف يحطمها ويعدمها تماماً، قال: فأخذ النساء والأطفال يخرجون على أسقف المنازل يتباكون، وسيوف أهل الإسلام مع ابن تيمية تلمع ولها صريف على رءوس الناس، وخنين ودوي وانكسار على رءوسهم، وما أتت صلاة العصر إلا وابن تيمية والأبطال يلاحقون التتار، وكانوا ألوفاً مؤلفه، يلاحقونهم تحت الشجر، ويذبحونهم ذبحاً.
وابن تيمية لا يستوفى بمحاضرة ولا محاضرات، حتى إن كتباً في الأسواق موجودة كتبها أعداء الإسلام من الفرنسيين، والأمريكان والإنجليز يقولون: ابن تيمية أيضاً، ويسأل أحدهم ويقول: ليس في الإسلام معجزة بعد القرون الثلاثة غير ابن تيمية! رحم الله ذاك الرجل.
استمر على هذا وله مدرسة فكرية منظرة، ومعه الذهبي وابن كثير والمزي وابن مفلح، وهذه الطائفة من أهل الحديث استمرت.